التنافس المصري السعودي على جيبوتي

التنافس المصري السعودي على جيبوتي
Spread the love

خاص ” مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط” – بقلم: السفير بلال المصري* — إندلعت في 27 كانون الثاني يناير 2011 الثورة اليمينية مُطالبة بسقوط الرئيس اليمني علي عبد الله صالح وهو ما حدث بعد بعض المناورات السياسية التي بادر بها صالح الذي أُضطر في النهاية إلي التنازل عن السلطة بموجب التوقيع على المبادرة الخليجية في 23 تشرين الثاني نوفمبر 2011 والتي بموجبها عُطل الدستور ومُنح الرئيس المخلوع حصانة من الملاحقة القانونية. ثم مع تولي الرئيس عبد ربه منصور هادي السلطة بعد إنتخابات رئاسية من دون منافس في عام 2012، ما لبث صالح أن تحالف مع حركة “أنصار الله” المعارضة المسلحة المعروفة ب”الحوثيين” الذين سيطروا على العاصمة صنعاء ومعظم المدن اليمنية بما فيها عدن مما أدي إلى إعلان المملكة العربية السعودية عن تشكيل ما عُرف بالتحالف العربي بقيادتها وبدء عملية عسكرية تحت مُسمي “عاصفة الحزم”. وشن هذا التحالف ضربات جوية علي مواقع للحوثيين في 25 آذار مارس 2015 وظلت عملية “عاصفة الحزم” جارية إلى أن أعلنت المملكة عن نهايتها في 21 نيسان أبريل 2015 لتحقق الهدف منها. لكن الهجمات الحوثية إستمرت واتجه الحوثيون للهجوم علي المحافظات الجنوبية فبدأ التحالف في عملية أخرى تحت مُسمى “السهم الذهبي” قوامها قوات تابعة للرئيس هادي وقوات سعودية. ووسط هذه المواجهة الثنائية دخل تنظيم القاعدة فيها بعملياته في محافظات لحج وأبين وشبوة ليؤثر بذلك على معادلة الحرب الأهلية في اليمن.
إزاء تطور المواجهة العسكرية في اليمن ودخول أطراف دولية فيها، أصبحت هذه المواجهة ذات طابع إقليمي. ونتيجة الشعور السعودي بخطورة سيطرة الحوثيين على اليمن على الأمن القومي السعودي، كان من الطبيعي أن تتسع دائرة هذه المواجهة لتصل إلى جيبوتي. فقد بدأت السعودية إتصالات بجمهورية جيبوتي بهدف إقامة لقاعدة عسكرية لها على أراضيها المواجهة لليمن على الجانب الآخر من مضيق باب المندب. وقد أكد هذه الإتصالات وزير خارجية جيبوتي محمود علي يوسف في مقابلة صحافية في 4 كانون الأول ديسمبر 2016 عندما أشار إلى أن حكومته وافقت “مبدئياً” على إقامة قاعدة سعودية في جيبوتي التي ترحب بالوجود العسكري السعودي على أراضيها.
وأشار يوسف إلى زيارات مُتبادلة بين مسؤولي الدولتين خلال الفترة الماضية حيث وُضعت بالفعل مسودة إتفاق أمني وعسكري وإستراتيجي بينهما سيُوقع عليه عاجلاً وأوضح أن مسؤولين سعوديين قاموا بزيارات ميدانية لجيبوتي لتحديد أنسب المواقع، لافتاً إلى أنه لا يوجد ثمة سبب سياسي يمنع من إقامة القاعدة، وأنه لو طرأ تأخير فسيكون لأسباب فنية، وأن بلاده وافقت بل شجعت على أن يكون للمملكة ولأي بلد عربي وجود عسكري على أراضيها نظراً لما يحدث في المنطقة.
وذكرت مصادر دبلوماسية مصرية في 6 كانون الأول ديسمبر 2016 لوسيلة إعلامية أن القاهرة بدأت منذ حوالي شهر “تحركات لوقف الاتفاق بين السعودية وجيبوتي لإقامة قاعدة عسكرية للمملكة على مداخل خليج عدن وأن مصر ترفض هذا الاتفاق بشكل كامل، على اعتبار أن تلك المناطق محسوبة على نفوذ دبلوماسي مصري يقع في نطاق أمنها القومي، باعتباره عمقاً استراتيجياً مصرياً في أقصى الجنوب”.
وأضافت المصادر: “مع أن القاهرة تتفهّم التحرك السعودي، الذي يأتي لزيادة أوراق الضغط في إطار الصراع مع إيران، وتحديداً في الحرب التي تقودها الرياض ضد الحوثيين في اليمن نظراً لما تتمتع به جيبوتي من موقع استراتيجي على البحر الأحمر عند خليج عدن، لكنها ترى أن هذا التحرك يتعارض مع قواعد وأعراف متعارف عليها بين الدول العربية وهو وقوع تلك المناطق في إطار النفوذ الدبلوماسي والاستراتيجي المصري لما لها من تأثير مباشر على قضية المياه وحوض النيل وممر قناة السويس، إلا أنها ترى أنه لو كانت السعودية تريد أن تؤمّن تلك المنطقة وتضمن عدم سيطرة إيران عليها فهناك تفهّم (مصري) لذلك، إلا أن ذلك لا بد أن يكون في ظل مشاركة مصر وتواجدها وإشرافها”.
من الوجهة المبدئية، لا بد من الإشارة إلى أن ما نقل عن هذه المصادر في صحيفة عربية لا يعبّر عن وجهة نظر مصرية رسمية – حتى الآن – إذ لا يتصور أن تكون وجهة النظر المصرية الرسمية – بإفتراض صحة أو تطابق ما نُقل عن المصدر الدبلوماسي المصري مع ما لدى وزارة الخارجية والمخابرات المصرية من معلومات – على هذه المسافة البعيدة من الحقائق والسوابق التاريخية ومن الواقع وتطوراته، خاصة فيما يتعلق بالواقع الجيوعسكري الحالي لجيبوتي. ويمكن بيان ذلك على النحو التالي:
– إن كل الدول تعلم جيداً الروابط العسكرية بين جيبوتي وفرنسا التي قبل إعلان إستقلال جيبوتي عنها بيوم واحد أي في 27 حزيران يونيو 1977 وقعت مع جيبوتي بروتوكولاً مؤقتاً أو إنتقالياً يتناول التعاون العسكري بينهما تم تثبيته في 28 نيسان أبريل 1978 بخطابات مُتبادلة مُتصلة بتوقيع فرنسا وجيبوتي في 3 أيلول سبتمبر 1979 على معاهدة بشأن إنشاء مكتب عسكري تم تعديلها بخطابات أخرى مُتبادلة في 12 شباط فبراير 1985. ثم بعد ذلك وقعت الحكومتان معاهدة أخرى تتعلق بذلك.
– كما أن هناك إتفاق دفاع مُوقعاً بين الدولتين في 17 آب – أغسطس 1960، مرفق به ثلاثة ملاحق، الملحق الثاني منهم خاص بالعون العسكري الفرنسي لجيبوتي. ثم تلا ذلك التوقيع على معاهدة خاصة أخرى في 18 آذار مارس 1961 تتعلق بالحفاظ على النظام، وهي معاهدة سرية.
– وثمة معاهدة أخري وُقعت في 25 آب أغسطس 1965 تتعلق بالقواعد الخاصة بالدعم اللوجيستي للقوات البرية والجوية وشبه الشرطية، لكن الحكومتين الفرنسية والجيبوتية قررتا إستبدال المعاهدة الموقعة بينهما عقب إستقلال الثانية بالمعاهدة التى وقعها الرئيسان الفرنسي نيكولا سركوزي والجيبوتي اسماعيل عمر غيله في باريس في 4 كانون الثاني يناير 2012 وتتعلق بالتعاون في مسائل الدفاع.
– ومن خلال إستعراض الإتفاقات والبروتوكولات التي وقعتها فرنسا مع الدول الأفريقية الأخرى، نلاحظ أن جيبوتي حظيت بعدد أكبر نسبياً من الإتفاقات العسكرية مما يؤكد أهميتها العسكرية، وهي الأهمية التي دعت الولايات المتحدة الأميركية من خلال القيادة العسكرية الأميركية لأفريقيا إلى إقامة قاعدة بحرية لها فيها، تتموضع في معسكر :كامب ليمونييه” حيث توجد أيضا بعثة القوة المُشتركة. ويعد الوجود العسكري واللوجيستي للقوات الأميركية في جيبوتي الأكثف على مستوي القارة الأفريقية.
– كما أن الصين هي الأخرى أقامت قاعدة عسكرية لها في جيبوتي بناء على توسع وتنوع مصالحها في القارة الأفريقية. وأعلن ذلك وزير خارجية جيبوتي في مستهل كانون الثاني يناير 2016. وأكدت مصادر أميركية أن هذه القاعدة الصينية ستؤجر لمدة عشر سنوات، ولم يُلاحظ أو نُشر أن تواجد قواعد فرنسية وأميركية وصينية في جيبوتي مثل قلقاً للحكومة المصرية. وعلى إفتراض أن القاعدة السعودية في جيبوتي ستؤدي إلي قلق مصري فإن الأدعى أن تمثل القواعد الفرنسية والأميركية والصينية وليست السعودية بكل تأكيد أكبر مصدر للقلق المصري على الأقل للتباين بين أهداف هذه القوى وبين أهداف الإستراتيجية العسكرية / الأمنية المصرية، وبخاصة وأن السعودية ومصر عضوان في جامعة الدول العربية ومُوقعتان على معاهدة الدفاع العربي المُشترك والتعاون الإقتصادي بين الدول العربية وملحقها العسكري.
الواقع أنه لم يعد للنفوذ المصري في الصومال بل في القرن الأفريقي ككل أثر. فكل ما تبقى من النفوذ المصري لا يتعدى بضع صفحات تاريخية تشير إلى أنه كانت لمصر إبان حكم الأسرة العلوية ثم في عهدي الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات سياسة نشطة في القرن الأفريقي وفي الصومال تحديداً، وقد إستمرت هذه السياسة تؤثر تأثيراً نسبياً حتى ما قبل توقيع معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل في 26 آذار – مارس 1979، إلى أن إنسحبت مصر تدريجياً من أفريقيا، وبخاصة من دول حوض النيل والقرن الأفريقي، مكتفية بعلاقاتها الخاصة بالولايات المتحدة وإسرائيل والتمثيل الدبلوماسي الصامت في عموم القارة الأفريقية، وذلك على مدار الفترة من تشرين الأول أكتوبر 1981 وحتى اليوم، وهو تقدير يتبناه معظم المراقبين للسياسة الأفريقية لمصر.
إن إفتراض وقوع جيبوتي في نطاق نظرية الأمن القومي المصري صحيح لكنه صحيح بالقدر نسفه وربما أكثر بالنسبة للسعودية. فالتطورات في اليمن تلزم المملكة بالتطبيق الصارم لنظرية أمنها القومي التي يقع اليمن في موقع القلب منها. فعلى سبيل المثال: عندما إعتقدت مصر بأنها مسؤولة عن حماية ثورة اليمن في 26 أيلول سبتمبر 1962 وأرسلت 130,000 جندي لهذه المهمة وواجهت السعودية عسكرياً في اليمن مما أدى في النهاية مع عوامل أخرى إلي هزيمة مصر أمام إسرائيل في حرب 1967. كان كلاهما ينظر إلى اليمن بإعتباره ذا صلة بأمنه القومي، إلا أنه من الإنصاف الموضوعي القول بأن اليمن قضية أمن قومي مباشرة للسعودية فيما هي قضية “ذات علاقة ما” حالياً وليس سابقاً بالأمن القومي المصري، ومن ثم فلا ترقى إلى مستواها من الخطورة للأمن القومي السعودي.
كان يجب على مصر – على إفتراض صحة كلام المصدر المصري أعلاه – أن تتسق مع ما تعتقده من علاقة جيبوتي بأمنها القومي أن تكون أسبق من السعودية في إقامة قاعدة لها فيها، حيث أعلن وزير خارجية جيبوتي عدم ممانعة حكومته له، وبخاصة أنه منذ نحو عام تعاقدت مصر على شراء غواصة وحاملة طائرات من ألمانيا وفرنسا، ومن المفروض نظرياً أن يبرر ذلك رغبتها تلك – لو أنها أبدتها لجيبوتي – في تأجير قاعدة عسكرية لها هناك. وإلا فما هو مبرر شراء مصر لحاملة طائرات وغواصة بعد أن تحولت إسرائيل عدو الأمس إلى شخصية إعتبارية بموجب معاهدة السلام التي وقعتها مصر معها عام 1979؟
إن الغواصات وحاملات الطائرات تعني ببساطة أن الإستراتيجية العسكرية لدولة ما ممتدة إمتداداً يصل إلى حد توفر قاعدة ثابتة مُتقدمة خارج حدود هذه الدولة. وهنا يمكن وضع أكثر من إفتراض: الأول أن تكون مصر قد إشترت الغواصة وحاملة الطائرات وسرب الرافال الفرنسي بعد إتفاق مبدئي مع جيبوتي لإقامة قاعدة مصرية لها هناك خاصة وأن برقيات ويكيليكس أشارت إبان عهد الرئيس حسني مبارك إلى لقاء بين قائد القيادة العسكرية الأميركية لأفريقيا AFRICOM وكبار العسكريين المصريين واقترح هؤلاء على الأمريكيين وضع مصر داخل نطاق عمل القيادة العسكرية الأميركية لأفريقيا وهو ما لم يقبله الأميركيون لأن منطوق إنشاء AFRICOM المُعلن في 6 شباط فبراير 2007 أشار إلى أن ولايتها أو نطاقها يشمل كل أفريقيا وجزرها فيما عدا مصر. ويبدو أن جيبوتي تراجعت بضغوط مُورست عليها من طرف ما (أميركي أو فرنسي أو سعودي) عن الوفاء بما إتفقت عليه مع مصر بشأن إنشاء القاعدة وعليه أصبحت الغواصة وحاملة الطائرات والحالة هذه عبئاً.
والإفتراض الثاني: أن تكون قد توفرت للسعودية معلومات، الأرجح أنها من مصادر فرنسية أو أمبركية، بشأن نية مصر طلب أو أنها طلبت بالفعل من جيبوتي إقامة قاعدة لها على الأراضي الجيبوتية، وهو ما عارضه السعوديين بقوة خشية أن تكون القاعدة المصرية في جيبوتي في حال إقامتها خطراً محتملاً على الجهد العسكري السعودي في عملية اليمن. وأشتد هذا الشعور بالخشية بعد تصويت مصر في مجلس الأمن الدولي الداعم لوجهة النظر الروسية والإيرانية إزاء القضية السورية. ومع ذلك وبغض النظر عن هذين الإفتراضين، فإن رفض مصر إقامة قاعدة عسكرية سعودية في جيبوتي أمر يجب تجنّبه بل وإبداء الترحيب به لا رفضه لأنه ليس أكثر من كونه تطبيقاً من التطبيقات القليلة لما يُسمي بالأمن القومي العربي. كما أنه من الخطورة على سمعة الريادة المصرية في العالم العربي ومسؤوليتها تجاه الحفاظ على أمنه أن تعتنق السياسة المصرية ما يُخالف نظرية الأمن القومي العربي وأمنها القومي جزء لا يتجزأ منه.
من المثير للتأمل تقدير المصدر الدبلوماسي المصري المذكور سابقاً، بأن إقامة قاعدة للسعودية في جيبوتي له علاقة سلبية بقضيتي مياه النيل وقناة السويس، فيما لا علاقة البتة بين هذه القاعدة وهاتين القضيتين، لأن الذي له علاقة فعلية وأثر تأثيراً كبيراً على موقف مصر من هاتين القضيتين هو توقيع إثيوبيا وست من دول حوض النيل العشر عام 2010 للإتفاق الإطاري الذي ينكر على مصر حقوقها التاريخية في مياه النيل، ومن ثم توقيع مصر وإثيوبيا والسودان في 23 آذار مارس 2015 في الخرطوم على وثيقة إعلان المبادئ التي أسبغت قدراً من الشرعية على إقامة سد النهضة قبل الإنتهاء من المفاوضات الفنية بشأن الطاقة التخزينية له.
ولا بد من الإشارة إلى أنه لو قيست درجة الخطورة علي الأمن القومي المصري لتبيّن أن إتفاقتي تحديد الحدود البحرية بين مصر والسعودية الموقعة في نيسان أبريل 2016 وإعلان مبادئ سد النهضة – وهما إتفاقيتان خلافيتان في مصر حتى الآن – هما وليس إقامة قاعدة سعودية في جيبوتي من سيؤثران سلباً على أمن مصر القومي.
وكي لا ننسى فمصر هي التي بادرت قبل حرب 1967 ضد العدو الإسرائيلي بإغلاق مضيق باب المندب أمام البحرية الحربية الإسرائيلية ومن المشكوك فيه بعد توقيعها علي إتفاق الحدود البحرية مع السعودية والتنازل عن جزيرة تيران أن تفعل ذلك مجدداً. ولهذا فإن السؤال الرئيس الذي يحتاج لإجابة هو: لماذا تخشى مصر من إقامة قاعدة سعودية في جيبوتي، وكانت جزيرة تيران قاعدتها المتقدمة ضد عدو واضح وتاريخي وكانت تكفي وتفي بالاحتياجات العسكرية المصرية سواء أكانت دفاعية أو هجومية، وهو ما لا يتوفر في حالة جيبوتي علي أي مقياس، إلا إذا كانت جيبوتي التي فيها قواعد أميركية وفرنسية وصينية تماثل تيران في أهميتها لمصر بحيث ييمكن للقوات المصرية أن تمارس مهاراتها بحرية في جيبوتي وهو أمر مشكوك فيه يقيناً.
وكان الأجدى عملياتياً الإحتفاظ بجزيرة تيران للتمسك على الأقل بالبأس العسكري لمصر بصفة تكاد تكون مُطلقة على أهم جزء من البحر الأحمر ألا وهو خليج العقبة. أما وأن مصر فضلت جيبوتي على تيران، في حال صحة التقرير الصحافي، فهذا يدل على أن المُستهدف من القاعدة المصرية المُفترضة في جيبوتي دولة أخرى غير إسرائيل وصراع آخر غير الصراع العربي الإسرائيلي!.

*الـــسفيــر بـــلال الــمــصري سفير مصر سابقاً في أنغولا والنيجر