عندما تصبح الحداثة سجناً للإنسان

عندما تصبح الحداثة سجناً للإنسان
Spread the love

بقلم: محمد يسري أبو هدور* — في كتابه (الحداثة السائلة) يناقش زيغمونت باومان عدداً من المفاهيم الرئيسة التي تشكّل معانيها الملامح الأساسية للمجتمع الإنساني في عصر الحداثة السائلة، تلك المفاهيم هي: التحرر، الفردية، المكان/الزمان، العمل.
يرى المؤلف زيغمونت باومان في كتابه “الحداثة السائلة”، الذي نقلته إلى العربية الشبكة العربية للأبحاث في عام 2016م، أن المشكلة الرئيسية التي تواجه التحرر، هي أنه لا توجد قاعدة جماهيرية ترغب في التحرر، بل قلة من الناس فقط يريدون أن يتحرروا.
ويلفت باومان نظر قرائه إلى أن سبب ذلك هو أن التحرر يستلزم وجود خيال خصيب يسمح بظهور عدد من الرغبات المنطلقة التي لا حد لها، فلما كان خيال معظم الناس محدوداً وضيقاً، فإنه بالتبعية لم يحدث أن شعر هؤلاء بالقيود المفروضة عليهم، فالتحرر –بحسب باومان-هو (الوصول إلى توازن بين الرغبة والخيال والقدرة على الفعل)، فالمرء يشعر أنه حر طالما أن خياله لا يتجاوز نطاق رغباته الفعلية.
يناقش باومان بعد ذلك كيف أن الحرية من الممكن أن تتحول في الكثير من الأوقات إلى نقمة لمن يتعرضون لها، ويضرب مثالاً على ذلك بما ورد في ملحمة الأوديسا، عندما سحرت بعض الحوريات عدداً من البحارة من أصدقاء البطل أودسيوس، الذي عندما حاول أن يعيد لأصدقائه حريتهم، غضبوا وهاجوا ورفضوا ذلك، وبرروا رفضهم بزهدهم في استعادة الحياة المبنية على الاختيار والتفكير، وميلهم للمعيشة الحيوانية الجبلية التي تنزع إلى الجبر والقسر.
يرى باومان في ذلك المثال نموذجاً واضحاً لما يسمّيه بـ(الفزع الهوبزي)، والذي ينسب إلى الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، الذي اعتقد أن الإنسان يجب أن يخضع لقيود تحد من حريته وتصرفاته من قبل المجتمع الذي يعيش فيه، وبرّر ذلك بأن الانسان الطليق المتحرر من كل قيود إنما هو وحش من الوحوش وليس فرداً حراً.
ذلك الفزع هو الذي جعل الكثير من البشر يُعرِضون –طواعيةً-عن السعي للتحرر، بل وفي بعض الأحيان، يعتقدون أنهم بخضوعهم لسلطة المجتمع يصبحون متحررين من سلطة القوى الطبيعية الهوجاء العمياء التي وجدوا أنفسهم خاضعين لها منذ لحظة ميلادهم.
النقطة الثانية التي تعيق عملية التحرر، أن المجتمع قد فرض قيوداً ثقيلة على أفكار أفراده وتساؤلاتهم وانتقاداتهم، فمشكلة المجتمع الرئيسة أنه قد توقف عن مساءلة نفسه، ولا يعني ذلك أن المجتمع قد قمع (الفكر النقدي بحد ذاته)، فهو لم يجعل أعضاءه يتوقفون عن النقد والتعبير عن وجهات نظرهم المختلفة، بل على العكس تماماً، قام المجتمع بتوطين أفراده على النقد والسخط طول الوقت، حتى صار الانتقاد جزءاً من الحياة اليومية الاعتيادية.

أين المشكلة إذن؟
المشكلة التي التفت إليها باومان، هي أن المجتمع قد وضع آليات وأجندات جاهزة ومحددة للنقد، وهو الأمر الذي جعل النقد (بلا أسنان حقيقية، فهو عاجز عن تفعيل الأجندة التي وضعت للخيارات المتعلقة بسياسة الحياة).
ويُظهر باومان هنا أحد الفروق الرئيسة ما بين صفة التحرر في عصري الحداثة الصلبة والحداثة السائلة، ففي الأولى كانت السلطة الشمولية والديكتاتورية تفرض خيارات محددة على الأفراد. إنما في عصر الحداثة السائلة، فإن المجتمعات تتيح الكثير من الخيارات المتعددة أمام الأفراد، ولكن في نفس الوقت تلزمهم باستخدام طرق وآليات وتقنيات محددة سلفاً للاختيار. ومن هنا يأتي التقييد على الحرية، فيحس الكثير من الأفراد أنهم أحرار في اختياراتهم، برغم كونهم في الواقع مجبرين على الالتزام بنفس طرق التفكير وسبل التعامل.

الفردية: غياب الأخ الكبير
يحاول باومان في كتابه أن يدرس ظاهرة الفردية في عصر الحداثة السائلة، وذلك عن طريق ملاحظة العلاقة ما بين رأس المال والأرض والعمل.
فبحسب باومان، كان النمط السائد في المرحلة الصلبة من الحداثة، هو أن رأس المال يتقيد بالأرض تماماً مثل العمال الذين يعملون من أجله. أما في مرحلة السيولة، فقد اختلف الوضع، فقد أصبح رأس المال ينتقل من مكان إلى آخر في سهولة ويسر، وفقد ارتباطه بالأرض، ذلك أن حقيبة سفر صغيرة، بوسعها أن تضم شيكات ووثائق ملكية وسندات لرأس مال أعظم وأضخم المشروعات الاستثمارية وأكثرها تكلفةً وميزانية. هذا الاختلاف دعم من روح الفردية والاستقلالية، وعدم الاحتياج للشكل الجماعي التقليدي الذي كان سائداً من قبل.
الأمر الثاني، هو أن مجتمع اليوم قد صار (مجتمعاً متعدد القوى)، بحيث لم تعد هناك قوة واحدة تستطيع أن تزعم أن معها الحق المطلق أو النفوذ الذي لا حد له. أدى ذلك إلى غياب فكرة المطلق بشكل كبير، ونتج عن ذلك التردد وضياع الثقة وسيادة حالة من اللايقين في نفوس جميع الأفراد. في ظل تلك الظروف الجديدة، فإن جل حيوات البشر (سيستحوذ عليها القلق عند اختيار الغايات، لا عند البحث عن وسائل الغايات التي لا تستحق التفكير).
أصبح العالم إذن خالياً من ذلك الأخ الأكبر الذي ذكره جورح أورويل في روايته الأشهر (1984)، كما أنه أيضاً لا يوجد الأخ الأكبر الحنون الذي قد يساعدك ويحنو عليك ويمد يد العون لك في الظروف الصعبة والأوقات الحرجة. ومن هنا أصبح كل ما يتعلق بمصير الفرد في يد (الفرد) ذاته، فالفرد هو الذي (يقرر الأشياء التي بمقدوره أن يفعلها، وينمّي هذه المقدرة بأقصى المستطاع، ويحدد الغايات التي تتوافق وهذه المقدرة، بحيث يتحقق له كل الرضى الذي يبتغيه، وكل متعة يمكن أن يتصورها العقل أو تخطر على البال)، فالأمر بأكمله متروك للفرد.
ويضرب باومان مثالاً على دور الفرد في عالم اليوم، فالرجل الذي يجلس على مائدة حافلة بأطباق من أشهى أصناف الطعام، الخيارات كلها متاحة أمامه في أن يتناول ما يريد وأن يترك الباقي، وهو بطبيعة الحال يأمل بأن يتذوق جميع تلك الأطباق، وهنا تظهر أهم التحديات أمام المستهلك في عصر الحداثة السائلة، وهي مسألة (تحديد الأولويات)، فالبؤس الذي يعانيه المستهلك هنا هو مشكلة الخيارات المتعددة، وليست الخيارات النادرة التي كان يقف أمامها إنسان عصر الحداثة الصلبة.
عالم اليوم أضحى لا يعترف بالقائد الذي يأمر فيُطاع من قبل أتباعه ومريديه، ولكنه خلق عدداً من النماذج والقوالب التي يستحب أن يتابعها الأفراد ويقلّدونها، ولهم –بطبيعة الحال-الحرية الكاملة في اختيار النموذج الذي يرغبون فيه.

المكان/ الزمان: اختلاق هُوية زائفة
يرى باومان أن السبب الرئيس الذي قد يدفع بالفرد لدفع مبلغ مالي كبير، في سبيل تملّك عقار في أحد الأحياء الجيدة في مدينة ما، هو تأمين تأشيرة دخول إلى المجتمع المشترك.
إن أدق مميزات ذلك المجتمع المشترك تتمثل في تمتعه بمراقبة وحماية شديدتين، فإذا خرج رجل ما عن القواعد التي يسير عليها المجتمع، فانه سرعان ما يتم إيقافه وشطبه، بينما لا يتم السماح للمشرّدين والمجرمين في دخول هذا المجتمع من الأساس.
ويبرز باومان الحاجة الملحة لمجتمعات عصر الحداثة السائلة، في تأمين نفسها ضد أي اعتداءات أو قدوم عناصر جديدة عليها، ويظهر هذا بشكل واضح في استشهاد باومان برد فعل الناخبين الغربيين في المواسم الانتخابية. فبرغم أن الكثير من الفرص تلوح أمامهم لضم فئات وعناصر جديدة إلى مجتمعاتهم، إلا أنهم في أغلب الأحيان ينزعون للخيارات التي تميل للإقصاء والبعد عن الآخر الذين يخشون خطره.
المدينة نفسها أصبحت غريبة، فقد فرضت حالة التحضر السائدة فيها أن تكون مجرد رقعة مكانية يلتقي فيها الكثير من الغرباء، هؤلاء الذين لكل منهم رغبة وطموح وأهداف تختلف بشكل كبير مع جيرانه، ولا يوحد بينهم جميعاً سوى الرغبة في النجاح والتفوق.
حالة التحضر والتخصص تلك أثّرت كثيراً على السمات المكانية التي تتصف بها المدينة. على سبيل المثال، عمل النمط الاستهلاكي على الفصل المكاني ما بين مناطق التسوق وباقي أنحاء المدينة السكانية، فنجد أن مراكز التسوق الكبرى مثل “المولات” على سبيل المثال، يتم إقامتها وتشييدها بجوار الطرق السريعة وعلى الأطراف النائية من المدن، بينما كانت مثيلتها القديمة (محلات البقالة) توجد في وسط الشوارع والأزقة.
نتج عن ذلك أن شعوراً من الهوية المشتركة قد بدأ يجمع الأفراد الذين يتواجدون مع بعضهم البعض في تلك الأماكن، قد تكون تلك الهوية زائفة وخادعة، ولكنها قوية ومؤثّرة في الوقت ذاته.
من النقاط التي ينتبه لها باومان في ما يخص المكان في عصر الحداثة السائلة، أن التقنية والعلم قد لعبا دوراً أساسياً في تجاوز قيود الزمان والمكان بشكل كبير، فقد كان من المعتاد في الماضي القريب، أنه عندما يسأل شخص ما شخص آخر عن مكان معيّن لا يعرفه، فإن هذا الشخص يجيبه بصيغة تستخدم الوقت بشكل أو بآخر، فقد يقول له أنه يستطيع أن يصل إلى المكان المقصود بعد ساعة أو ساعتين، أو قد يتجاوز قليلاً فيقول بعد الظهيرة أو بعد غروب الشمس مثلاً.
الآن اختلف الوضع كثيراً، فقد صارت التحديدات تستخدم بشكل يشير إلى الوسيلة المستخدمة في الانتقال، فقد يقال مثلاً (هل ستذهب بالسيارة أم سيراً على الاقدام؟)
يرى باومان في تلك الإجابة وما قد يتشابه معها من إجابات، إعلاناً لمبادئ عصر الحداثة السائلة الرئيسة، تلك التي تُخضع المكان لمقاييس الزمان، كما تجعل من السيطرة على أدوات وتقنيات الانتقال سبيلاً لإخضاع الزمان.

العمل: التحول من الاستراتيجية إلى التكتيك
يرى باومان أن الوظيفة الرئيسة للعمل في العصور السابقة، هو أنه وسيلة مهمة للتخلّص من الفوضى والارتباك ولإقرار النظام، مما ينتج عنه تطويع المستقبل واستغلاله والتحكم فيه، وهو الأمر الذي يعني (أن تتولى البشرية قيادة مستقبلها).
ويؤكد باومان على أن تلك الوظيفة قد تغيّرت بشكل كبير في عصر الحداثة السائلة، فمع زيادة النزعة الاستهلاكية في المجتمع أصبح من المهم أن تضع الشركات والمؤسسات خططاً قصيرة الأمد لتستطيع أن تشترك في المنافسة، وذلك لأن التقنيات الصناعية الحديثة التي تقفز قفزات عالية في كل يوم عن سابقه، قد جعلت من العسير أن تتنبأ كل شركة بمستقبل منتجها على المدى البعيد، من هنا صارت وظيفة العمل الرئيسة هي تقديم حلول وتكتيكات وقتية لفترة زمنية قصيرة، وفقد العمل بذلك ارتباطه القديم بالجماعية وبالغايات النهائية والكلية للإنسانية.

ويعبّر باومان عن ذلك التغيّر الكبير بقوله: (ربما تكون عبارة سلق العمل هي أفضل وصف للطبيعة المتغيرة للعمل المنفصل عن الغايات الكبرى للرسالة البشرية في كل زمان ومكان… هكذا جرّد العمل من كل بهارجهه الأخروية وانسلخ من جذوره الميتافيزيقية ومن ثم فقد المركزية التي أضفيت عليه في كوكبة القيم المهيمنة عليه في عصر الحداثة الصلبة والرأسمالية الثقيلة).

*محمد يسري أبو هدور باحث مصري .

المصدر: الميادين نت