هل كان القذافي عميلاً أميركياً؟

هل كان القذافي عميلاً أميركياً؟
Spread the love

بقلم: عبد المنعم عيسى* – خلال المدة القصيرة نسبياً التي تعاصر فيها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر مع العقيد الليبي معمر القذافي -وهي تقرب من ثلاثة عشر شهراً- حدث أن وصف عبد الناصر نظيره الليبي الراحل بأنه “أمين القومية العربية” وهو التوصيف الذي سيلعب دوراً كبيراً في الكاريزما التي أراد القذافي الظهور بها حتى جعل ذلك التوصيف على مدى أربعة عقود تقريباً هي مدة حكمه ملاصقاً لشخصه وأفعاله، كمن لا يريد أن يكون هناك فكاك بينهما. وفي السياق كان الزعيم الليبي يعمد الى التذكير شخصياً بنعت الزعيم القومي العروبي الأول له كلما أحس بالحاجة الى شحنة دعم سياسية في أي اتجاه من الاتجاهات، مستخدماً اياه كشهادة تعطيه الحق في التربع على عرش القومية العربية بشكل فعلي، بل والحق في إطلاق التوصيفات التي يراها في الزعماء العرب والأفارقة فيقول هذا “وطني” وذاك ليس كذلك وكذا الحق في توزيع “صكوك الغفران” لمن يرى أنهم يستحقونها .
اليوم وبعد كل ما جرى، وبعد أن طويت صفحة “القذافية” وأضحت في رحاب التاريخ، قد يكون لازماً وممكناً البت في ذلك التوصيف ومحاولة البحث في دواعيه واستمراريته، وإذا ما حصل وافتقد “الأمين” لبوصلته التي تحدد له الاتجاهات على الدوام. فالعقود التي ظل يمسك بها بزمام الأمور أربعة ومن المؤكد أن الحكم المديد يفتح الباب واسعاً لتراكم الأخطاء، ولربما لا يمكن الحكم على التجربة ككل ما لم تتم العودة الى الجذور والمناخات التي وصل العقيد القدافي فيها الى سدة السلطة في طرابلس الغرب .
كانت مرحلة ستينيات القرن العشرين في المنطقة العربية تطفو على ملامحها علائم الاضطراب والاحتقان، وهي البيئة التي تكون عادة حبلى ومن الممكن أن تأتي بالعديد من الظواهر التي يمكن لبعضها أن يكون استمراراً لسياق عام تاريخي ترسمه درجة التطور الحاكمة وهو ما يفضي الى أن يكون الحدث إيجابيا لأنه ببساطة يكون عندها قد استطاع أن “يجب” ما قبله، في حين يمكن لبعضها الآخر أن يكون “انقطاعياً” بمعنى فاقداً للصلة بماضيه أو درجة التطور التي وصل اليها. وهو في هذه الحال يكون بعيداً عن احتياجات الشارع ولوازم النهوض المجتمعي. لكن مع ذلك، وعلى الرغم من أن تلك الظروف كانت عامة إلا انه يمكن القول إن كل كيان من الكيانات العربية كان يحظى بخصوصية ناتجة عن عوامل عدة، وفيما يخص حالتنا الليبية هنا يمكن القول إن النظرة الأميركية للطريقة التي كان يدير بها الملك السنوسي ليبيا كانت سلبية بل ويتزايد فيها النفور على إمكان التعايش مع ذلك النظام.
يروي علي الساحلي الذي شغل منصب رئيس الديوان الملكي قبيل سقوط السنوسي في العام 1969 أن آرمند هامر الذي كان يشغل منصب رئيس شركة “اوكسيدنتال” الأميركية كان قد حضر في يوم الخميس الأول من شباط فبراير 1962 للقاء الملك الليبي مكلفاً من الرئيس جون كينيدي، وفي ذلك اللقاء قال هامر: “يا مولانا خلال الأشهر الثلاثة الماضية، أي منذ بداية تصدير البترول، أصبح لديكم رصيد من العملة الصعبة لا بأس به وهو يزداد مع الأيام، سواء أكان ذلك بفعل زيادة الإنتاج أو نتيجة ارتفاع أسعار النفط. ولذا فإن حكومتنا تطلب من جلالتكم أن تخصموا من مستحقاتكم نسبة (يقول الساحلي إنه حددها بالسنتات إلا أنه لا يذكرها) لمساعدة الدول الفقيرة في أفريقيا ولن يؤثر ذلك على مداخيلكم، وعندها رد الملك على الطلب الأميركي بالرفض قائلاً إن بلاده اليوم تمر في طور البناء والإصلاح ثم إن أمراً من هذا النوع يحتاج الى موافقة البرلمان الليبي أي الكونغرس لديكم، ولذا خرج الموفد الأميركي غاضباً من ذلك اللقاء حتى أنه تعثر مرتين على السلم المؤدي الى الطابق الأرضي ثم قال لمرافقيه: “هذا البلد ليس بحاجه الى الكونغرس، نحن نريد شخصاً واحداً نتفاهم معه”. وفي السياق عمدت واشنطن الى تكرار تلك المحاولة عبر هامر نفسه الذي حاول استمالة ولي عهد الملك الأمير الحسن الرضا السنوسي (توفي العام 1992) إبان زيارته لأميركا في تشرين الأول أكتوبر 1962. إلا أن المحاولة فشلت من جديد، الأمر الذي دفع بالأميركيين إلى البحث عن بدائل وبشكل جدي، وعندها ذهب السفير الأميركي في طرابلس الغرب ما بين 1965-1969 ديفيد نيوسم بتوجيه من حكومته الى الاتصال بخريجي مدرسة “الزاوية” العسكرية، وتحديداً منهم الضباط ذوي الرتب المتدنية. وفي مرحلة لاحقة فتحت لهؤلاء الملاحة(السفينة) “ويلس” في طرابلس وقد احتوت على بارات ومراقص إضافة الى أن المشروبات والأطعمة كانت تقدم فيها مجاناً. ¬وبدأت الاستخبارات الأميركية تتغلغل في أوساط أولئك الضباط وتوغل في البحث عن ضالتها في اختيار الشخص “المناسب” لقيادة ليبيا المستقبل. وعلى مدى سنوات كانت المحاولات الأولى قد أصيبت بفشل ذريع وهي في مجملها كانت مخيبة للآمال، ولربما كان ذلك بفعل الاختيار غير المناسب. فقد كانت الرؤية لدى من جرى الاتصال بهم أن لا شيء مغرٍ في كل ما أقامته – او تعرضه- واشنطن. وفي حينها طويت الفكرة، لكن من دون أن تطوى المحاولات والشاهد هو أن الشبكة التي أفرزتها “الملاحة ويلس” في المرحلة السابقة كان لها عميل مصري اسمه مصطفى كمال أحمد المهدوي، وهو محامٍ على درجة عالية من الثقافة مضافاً اليها لباقة ملفتة وكان يتمتع بصلات وثيقة بمؤسسات الحكم في طرابلس. هذا الأخير تقرر نقله في العام 1967 الى قاعدة (قار يونس) في بنغازي التي تحوي العشرات من الضباط، إلا انه ومنذ بدء مهمته الجديدة كان قد تلقى تكليفاً صارماً بمراقبة الملازم أول معمر بوقينار القذافي، وفي غضون أشهر استطاع المهدوي تنظيم مجموعة انقلابية وقد ورد ذكرها في وثائق السي آي ايه باسم (بلاك بوتس). ومن ثم وضعت لتلك المجموعة برامج تتلقى بموجبها تدريبات خاصة وذات أهداف محددة.
ومن الجدير ذكره هو أن القاهرة كانت قد تلاقت في أهدافها مع الاستخبارات الأميركية في ليبيا من دون أن يكون هناك أدنى تنسيق في تلك التلاقيات. وعليه فقد راحت إذاعة صوت العرب المصرية الشهيرة تشن حملة شرسة ضد الملك السنوسي. وفي مرحلة لاحقة من التحريض طالبت الشعب الليبي بإسقاط الملك الذي صوفته بـ”العميل”. ولربما ساعدت التطورات التي شهدتها المنطقة في تلك المرحلة في إنضاج “الثمرة” الليبية التي أريد لها أن تقع كلياً في الأرض الأميركية وبدرجة كبيرة بل ومباشرة أيضاً. فقد عمت الآثار الكارثية التي خلفها زلزال حزيران يونيو 1967 جغرافياً وكذا ديموغرافياً المنطقة العربية وإن كانت تلك الآثار متفاوتة في حدتها تبعاً للاعتبارات التي تخضع اليها كل دولة على حدة. وفيما يخص الدولة الليبية فقد سبق وانتشرت فيها رياح الناصرية ما بعد العدوان الثلاثي عام 1956 وإن كان تأثيرها أقل مما هو عليه في دول الطوق. إلا ان زلزال هزيمة 1967 الذي أسس لهزيمة المشروع القومي العربي كان قد أدى الى وصول “الترددات” الناصرية بدرجة أقوى بما لا يقاس من السابق على غير ما كان متوقعاً الى مناطق بعيدة عن “محطة البث” وفي الذروة منها كانت ليبيا.

*كاتب سوري