ريما بنّا ومحمود درويش وفلسطين

ريما بنّا ومحمود درويش وفلسطين
Spread the love

د.محمد عبدالرحمن عريف — “لتلتقي محمود درويش عليك أن تصعد إلى الشمس.. وصلت إلى قمة التل.. التفتُّ أولًا ورائي.. رأيت ما يراه شاعري المُفضّل كل يوم.. هذه رام الله وزهر اللوز.. وبعدها هناك.. يرى وراء الأفق كل فلسطين”.. هكذا كتبت أيقونة الغناء الفلسطينية ريم بنا، التي رحلت عن عالمنا فجر اليوم، بعد حكاية كفاح أسطورية ضد مرض السرطان الذي تغلغل طويلًا في جسدها، في مقال عن الشاعر الراحل محمود درويش عام 2015. فلم يمنعها عن الغناء حتى فاضت روحها.
من الصعب رثاؤها، من الصعب الحديث عنها بصيغة الغائب، لمن لا يعرفها هي صوت فلسطين، لحنها، رائحة بيوتها، وكلمتها التي قاومت حتى النهاية. في «الناصرة» ولدت، وفيها نشأت، وهي أيضًا المدينة الفلسطينية التي ظلت محتفظة بأغلبيتها العربية بعد سنوات من الاحتلال الإسرائيلي في 1948.
ظلت تغني وتناضل حتى رحلت، وفي لحظاتها الأخيرة كانت ﻻ تزال تبحث عن صوت طبيب فلسطيني يذكرها أن أهلها ورفاقها باقون هنا، ابتهجت للحظات، رغم السرطان الصهيوني الذي ينهش في أرضها، ورغم السرطان الذي يفقدنا مرة أخرى روحًا طيبة ويبدو أمامه البشر والطب والأحبة عاجزين. لنا حكاياتها ولها منا سلام. الحلم: احكي للعالم كان صوتها حلمًا. حلم بوصول حكايات الفلسطينيين إلى كل الدنيا.
كان هذا مشروعها الغنائي منذ البداية، منذ دراستها للموسيقى والغناء في المعهد العالي للموسيقى بموسكو، أصدرت ألبومين أثناء فترة دراستها، ركزت فيهما على التراث الشعبي الفلسطيني، وليكون عنوان ألبومها الأول عقب التخرج في عام 1993 “حلم” اسمًا على مسمى. بكلمات أغنيتها «احكي للعالم» يهديها أبوها الروحي وابن الناصرة أيضًا، الشاعر الفلسطيني «سميح القاسم»، بدايتها الحقيقية، وربما كانت دندنتها «كنا ما اْجمل ما كنا/ يا بنت الجار ويا حنا/ كنا فلماذا أعيننا/ صارت بالغربة مجبولة/ ولماذا صارت أيدينا/ بجبال اللعنة مجدولة/ احكي للعالم.. احكي له» علامة على عودتها من موسكو عقب ذلك إلى الناصرة، هذه المرة برفقة زوجها ورفيق دراستها الموسيقي الأوكراني «ليونيد أليكسيانكو». مرايا الروح: صوت الأسرى والشهداء عادت لتهدي صوتها لسرد حكايات أسرى وشهداء شعبها في تعاون عائلي في بيت الناصرة. في ألبوم مرايا الروح في عام 2005 غنت ريم من كلمات والدتها الشاعرة الفلسطينية زهيرة صباغ، ومن ألحان مشتركة بينها وبين زوجها ليونيد أليكسيانكو، عن البيوت المهدمة، الأمهات الثكلى، الرجال والنساء الذين يتبرعون بدمائهم للقضية، وقبل كل شيء عن الأطفال الذين يرحلون بلا ذنب.
عادت ريم التي بدأت حياتها الفنية بأغاني الأطفال من التراث الفلسطيني لأغانٍ عن أطفال الأرض المحتلة مرة أخرى، ولكن هذه المرة بشكل أكثر جنائزية. تختتم ريم أغنيتها «سارة» فتقول: «غافلها القناص/ بطلقة في الراس/ ارفعوا العصبة عن عيون سارة/ حتى ترى وجه قاتلها». مواسم البنفسج: أغاني حب من فلسطين لصوتها وكلماتها أثر محبب في النفوس، لم تكن تصدر للعالم صورة شعبها كمن يحيا ليقاتل، كانت حكاياتها دائمًا عن الإنسان، عن هذا الشعب الذي يقاوم محتله بالحياة، ويبقى على قيد الحياة ليحب.
في ألبومها «مواسم البنفسج» في عام 2007 تتركنا ريم مع مجموعة من أبلغ وأرق أغاني الحب الفلسطينية، مرة أخرى في تعاون مع والدتها على مستوى الكلمات وزوجها الأوكراني على مستوى الألحان. لمصطلحات الحب وهج آخر في أغاني ريم، مصطلحات كقبلاتنا ترفل على الشاطئ، وهج تكتسبها من طزاجتها، كما تكتسبها من طريقة غناء ريم فيما يشبه الدندنة، أداؤها يبدو كهمس ومناجاة شخصية للغاية.
هذا ما قدمته ريم في ألبومها الأخير «تجليات الوجد والثورة» الذي صنعته عقب انفصالها عن زوجها، وأصدرته في عام 2013 عقب ثورات شباب الربيع العربي، من ابن الفارض، إلى الحلاج، ومن ابن عربي، ورابعة العدوية، إلى محمود درويش، هكذا قدمت ريم لشباب يعيد اكتشاف ذاته تجليات عابرة للأزمان. هكذا أصبحنا نرى أصدقاءنا يتناقلون أبيات شعر كتبها ابن الفارض في العصر العباسي «قلْبي يُحدّثُني بأنّكَ مُتلِفي/ روحي فداكَ عرفتَ أمْ لمْ تعرف»،
لقاء واحد ووداع مبكر التقيت بها مرة واحدة، ذهبت لمقاطعة نيوكولن في برلين، سألت عن المشفى الذي ترقد فيه، اشتريت باقة صغيرة من الورود من بائعة ذات ملامح شرق آسيوية أمام بوابات المشفى، دخلت وأنا أجر أقدامي حتى وصلت لمكتب الاستعلامات، سألت عنها بلكنتي الألمانية غير المتقنة، وقبل أن تبدأ الموظفة في البحث عن رقم غرفتها فاجأني مجموعة من أصدقائها، نادوني: «هل تريد زيارة ريم؟» فأجبت بإيماءة تعني القبول، عرفوا من حديثي معهم أنني مصري. صعدت إلى غرفتها، استقبلتنا ابنتها الجميلة ووالدتها التي تبدو كأم مهمومة أكثر من كونها شاعرة خبيرة، أتت ريم على كرسيها المتحرك، ابتسمت وصافحت واحتضنت الجميع بملامحها الدافئة، كنت برفقتها دون أن تعرف أنني كاتب أو طبيب، دون أن تعرف عني أي شيء، بهذه البساطة. في الحقيقة كنت هناك وفاء لوعد لمحب حقيقي لريم، أخي الأكبر «أحمد»، منذ بضع سنين يواظب أحمد في الكتابة عن ريم، نشر أغانيها، ومراسلتها يوميًا، حتى أنه حاول كثيرًا دعوتها لزيارة مصر في الثلاث السنوات الأخيرة، ولكن ظروفها الصحية وظروفنا الأمنية لم تسمح.
أخبرتها بأن هذه الورود من أخي فارتسمت ابتسامة خلابة على وجهها، شكرتني وأخذت تحكي عن لطف ما يفعله، كنت أنظر بكثير من الخجل والانبهار الذي يتملكني عادة أمام كل هذا القدر من الجمال، لم أرد بأي شيء، رأيتها فنانة حقيقية لم يسعفنا الحظ لقضاء وقت كافٍ في حضرتها، لم ألتقط لسوء الحظ صورة لتوثيق هذه الزيارة رغم أنها كانت جميلة وهادئة حتى وسط كفاحها المستمر مع المرض.
كانت تحكي لأصدقائها أن برلين تحوي من أبناء فلسطين ما يكفي لتكوين حي مستقل، ضحكنا ثم استأذنت في الرحيل، كنت أمني نفسي بلقاء آخر في ظروف أفضل يسعفني فيه لساني فأتحدث، ولكن القدر لم يمهلنا، رحلت اليوم ريم في الناصرة، حيث أحبت، وبقيت ضحكتها بكل ما فيها قوة وعناد حاضرة في حكاياتنا.
كانت ريم واحدة ممن نقلوا بصوتهم العذب كلمات عملاق الشعر الراحل محمود درويش، مواطنها الذي رحل بدوره عن عالمنا قبل عشر سنوات تاركًا توثيقًا للنضال الفلسطيني والكثير من المشاعر الإنسانية التي شدا بها صوتها. “أخذت أغنّي “أثر الفراشة” التي غنيتها في ألبومي الأخير.. أحسست براحة.. بفرح طفيف في الخاصرة.. حملت عيوني المُثقلتَيْن من روحه الراقدة.. إلى الشمس.. وانتبهت إلى الشاهد.. وقد حُفرت عليه هذه القصيدة “أثر الفراشة لا يُرى.. أثر الفراشة لا يزول.. هو جاذبية غامض يستدرج المعنى.. ويرحل حين يتضّح السبيل.. هو خفّة الأبدي في اليومي.. أشواق إلى أعلى وإشراق جميل”! ابتسمت وأنا أغنيها.. كان يُنصت إليّ ويسمعني.. وقفت بعدها.. وبصوتي حملت قصائده وروحه نحو الشمس”. كانت “أثر الفراشة” واحدة من أروع القصائد التي كتبها الشاعر الفلسطيني الراحل، غنتها ريم في واحد من أشهر ألبوماتها الغنائية “تجلّيات الوجد والثورة” عام 2013. ساهم صوتها الدافيء في تعريف القصيدة لشريحة كبيرة لم تكن تهتم بقصيدة بالفصحى، وازداد تعلق شريحة أكبر بشعر درويش عندما سمعوه بصوتها.