مفهوم الأسلوبية وأنماطها

مفهوم الأسلوبية وأنماطها
Spread the love

بقلم: د. ريما الدياب*– الأسلوب في النظم لا يخرج ترتيب الألفاظ عن أنساق ترتيب المعاني في نفس المتكلم، وذلك ما أشار إليه عبد القاهر الجرجانيّ حين تنبّه على أهمية العلامات الأسلوبية للكلام، ووصل بين النحو والمعاني وعرف النظم بأن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله ، فهو بذلك وثّق الصلة بين علم النحو والمستوى الدلالي للكلام ، منحازاً في ذلك إلى التعبير الجمالي للغة، فالمتكلم عنده لا يكتسب فضيلة معرفة النحو من حيث هو آلة لضبط الكلام، بل يحوز فضل النظم الذي بموجبه يحسن استخدام أساليب النحو وفق ما تقضيه قواعد النحو للتعبير الأمثل عن المعاني وهذا لا يكون إلّا بالنظم، بمعنى أن يدرك المتكلم مزية التقديم والتأخير والفصل والوصل والذكر والحذف بما يقتضيه المعنى وبما تقتضيه قوانين النحو، وعليه ليست المزية عنده في الاستعمال اللفظيّ من حيث هو لفظ، ولا في الاستعارة من حيث هي استعارة. فهذا كلّه موجود في اللغة قبل أن ينشئ المتكلم كلامه، وإنّما المزية في النظم أي وضع الألفاظ في مواضع مكينة من شأنها إجلاء القصد وبلوغ النية التي ينعقد الكلام للتعبير عنها، بدليل قول الجرجاني “أن تضع كلامك” ولم يقل أن تضع ألفاظك. وعليه فإنّ النظم عنده يتناول تجويد الأساليب، وإدراك مؤداها ومعرفة طاقاتها في أداء المقاصد. ومن هنا تآخى النظم عنده مع الأسلوب، وكلامه عنهما يدخلنا في صميم مبحث الأسلوبية المعروفة بعلم دراسة الأسلوب (Stylistics- La Stylistique).
لقد وجدت الأسلوبية في العصر الحديث مزيداً من الاهتمام لدن الباحثين الغربيين من أمثال بالي الذي عرّفها بقوله هي “علم يُعنى بدراسة وقائع التعبير في اللغة المشحونة بالعاطفة المعبرة عن الحساسية”. أمّا جاكبسون فوجد في الأسلوبية بحثاً عمّا يتميز به الكلام الفنيّ عن بقية مستويات الخطاب أولاً وعن سائر الفنون الإنسانية ثانياً.
إنّ مجال دراسة الأسلوب بوصفه ظاهرة لغوية فنية تسعى إلى الوقوف على نسبية اختلافها من كاتب لآخر، وبصورة مجملة فإنّ البحث الأسلوبيّ إنّما يعنى بتلك الملامح أو السمات المتميزة في تكوينات العمل الأدبي وبواسطتها تكتسب تميزه الفردي أو قيمه الفنية، بصفته إنتاجاً إبداعياً لفرد بعينه، أو ما يتجاوزه إلى تحديد سمات معينة لجنس أدبيّ بعينه .
وتكمن أهمية الأسلوبية في بحثها عن الأسس الموضوعية لعلم الأسلوب ، وتمثل طريقة في تحليل شكل النصّ مع الاعتماد على علوم أخرى والإفادة من معطياتها كعلم اللغة – اللسانيات.
وتتميز عن البنيوية بأنها لا تكتفي ببنية النص، بل تنظر إلى كل ما يحيط به نظرة شاملة، هدفها الأساسي البحث عن جماليات النصّ. كما أنّها تتصل بعلم البلاغة ولا سيما فيما يعرف بالانزياح والتكرار والإيحاءات التي يستشفها الناقد من السياقات المختلفة. ولكنّ أفق الدراسة الأسلوبية أوسع من أفق الدراسة البلاغية ، فالأسلوبية علم وصفيّ يدرس الظواهر اللغوية جميعها بدءاً من الصوت مروراً بالتركيب، أمّا البلاغة هي علم معياري محدّد.
وقد ظهرت الأسلوبية بوصفها منهجاً نقدياً لسانياً، منطلقها الأساسيّ النصّ الأدبيّ ودراسته دراسة لغوية لاستخلاص العناصر المكوّنة له، إذ إنّ المقاربة الأسلوبية من أهمّ الوسائل القادرة على كشف الخصائص المميزة لكلّ شكل تعبيريّ أو استعمال لغويّ.

– أنماط الأسلوب:
1 – الانزياح:
يتمثل الأسلوب كونه انحرافاً عن القاعدة بالعدول، لأنّه ينأى بالمنشئ عن النمطية ويمكّنه من التعبير عن ذاته مبرزاً تميزه وتفرده في مجال اللغة ، والانزياح أو الانحراف ومعناه مخالفة الأنماط المعيارية المتعارف عليها للخروج إلى أسلوب غير مألوف، وذلك عن طريق استغلال إمكانات اللغة وطاقاتها الكامنة. ومن هنا يسعى الكاتب إلى تحقيق شروط البلاغة، بوصفها مدافعاً عن الاستعمال الجماليّ للغة، وكذلك يرعى مقتضيات النحو، لأنّ الخروج أو الانزياح الذي يسعى إلى تجاوز قواعد النحو واللغة غير مقبول جمالياً.
وقد حدد جان كوهن الانزياح الدلالي بأنه انحراف عن معيار، هو قانون اللغة الاعتيادية أو المألوف، يحمل قيمة جمالية… فهو خطأ ولكنه كما يقول برونو(خطأ مقصود). ولعل تعريف برونو أنّ الانزياح خطأ لغوي مقصود يستهدف ظواهر الشذوذ في اللغة ليس أكثر ، لأنّ ما يشذّ عن القاعدة هو انزياح وليس بخطأ، إذ الخطأ اللغوي المقصود لا يقبله الذوق، لذا لا معنى للانزياح الذي يخترق قواعد اللغة.

2 – الاختيار:
يقوم المبدع بهذه العملية عندما يختار لفظة من بين العديد من الكلمات المعروفة لديه، والتي تمثل الرصيد المعجمي له فبمقدوره استبدال لفظة بأخرى، ولكنّه يختار كلمة ما يخال أنّها تؤدي المعنى الذي يراوده، وبمجرد التعبير تنعزل سائر المفردات التي يمكن أن تؤدي المعنى، وهذا الاختيار محكوم بحالة نفسية يحسب المتكلم أنّ هذه الكلمة أكثر قدرة على أداء معناه من غيره ، فتنتقل كلماته من حيز المعجم إلى حيز السياق، ومن هنا تكتسب الألفاظ معاني جديدة بحسب سياقاتها الجديدة ، قد تشترك مع دلالتها السابقة أي عندما تكون اللغة في درجة الصفر، وقد تخالفها مخالفة واسعة، وما يكشف تلك الانحرافات إنّما هو علم الأسلوب.

3 – تكرار الأنماط اللغوية:
يبتعد الأديب هنا عن مبدأ الاستبدال والاختيار، ويعمد إلى التكرار المحكوم بحاجة نفسية لا تسمح للمنشئ بالاختيار، فهو يرتبط بحاجة ملحّة تتطلب منه تكرار الكلمة ليفرّغ من خلالها شحناته النفسية، إذ إنّ للتكرار مبعثاً نفسياً، ومن ثمّ فهو مؤشر أسلوبي يدل على أنّ هنالك معاني تحوج إلى شيء من الإشباع لذا تبتعد عن مبدأ الاختيار والاستبدال، وتستخدم طرقاً جديدة في التوزيع وهذا ما يسمى بالمتغيرات الأسلوبية، ويمكن دراسة الأنماط المكررة في النصوص الشعرية بحسب المجالات التي تتيحها الأسلوبية عامة، فالأسلوبية التعبيرية تقوم على شحن المتكلم كلماته بدلالات ليكثفها بغية خدمة المدلول.
أمّا الأسلوبية البنائية فتنظر إلى النصّ الأدبي من خلال الأسلوبية البنائية على أنّه بنية متماسكة، وبكونه كائناً عضوياً شعورياً، في حين أنّ الأسلوبية الإحصائية تعتمد على المعايير الإحصائية انطلاقاً من أنّ الأسلوب عبارة عن مجموعة اختيارات المؤلّف ، لذا يعدّ الإحصاء معياراً موضوعياً يتيح تشخيص الأساليب، وبإمكاننا بواسطته تمييز الفرق بين أسلوب وآخر، بل يكاد ينفرد من بين المعايير الموضوعية بقابليته لأنّه يُستخدم في قياس الخصائص الأسلوبية بغض النظر عن الاختلافات في مفهوم الأسلوب ذاته.
ويُعنى هذا الاتجاه بالكمّ وإحصاء الظواهر اللغوية في النصّ، ويبني أحكامه بناء على نتائج هذا الإحصاء، ويعدّ المنهج الإحصائيّ من أهمّ المناهج التي خدمت النصوص الأدبية وبلورت جماليتها، إذ تعدّى مفهوم الإحصاء للكشف عن التوظيف الأسلوبي والدلالي للظواهر اللغوية المتواترة في العمل الأدبي.
تعتمد الدراسة الإحصائية الإحصاء الرياضيّ بغية الدخول في النصّ الأدبي لنستدلّ من خلالها على أهمّ خصائص الخطاب في أدواته البلاغية والجمالية ، إذ يهدف التشخيص الأسلوبي الإحصائي إلى تحقيق الوصف الإحصائي الأسلوبي للنصّ لبيان ما يميزه من خصائص أسلوبية عن باقي النصوص.

*أستاذة جامعية سورية وباحثة في الأدب العباسي.