مجزرة الإثنين.. بداية العودة أم نكبة أخرى؟

مجزرة الإثنين.. بداية العودة أم نكبة أخرى؟
Spread the love

بقلم: د.محمد عبدالرحمن عريف* — مع منتصف أيار/ مايو 2018، اكتملت سبعة عقود تطوي صفحاتها من تاريخ القضية الفلسطينية، سُطّرت مع بداية عقدها الثامن بالدم وتضحيات شعب يقاتل وحده ضد آخر احتلال على وجه الأرض. غزة بداية الشرارة التي أعلنت غضبها ضد نقل سفارة أمريكا من “تل أبيب” للقدس المحتلة، فخرجت رفضاً لـ”صفقة القرن” والحصار، ومطالبة بالعودة.
لقد نقلت الولايات المتحدة رسمياً سفارتها إلى مدينة القدس، على وقع «مجزرة الإثنين الأسود» التي نفذتها إسرائيل في قطاع غزة، وأوقعت 53 شهيداً فلسطينياً، وحوالي 2300 جريح، وكانت شاهداً على نقل السفارة من تل أبيب، فيما رجح ديبلوماسيون أن يعقد مجلس الأمن جلسة عاجلة اليوم، بناء على طلب فلسطيني، وتوالى التنديد الدولي والعربي والدعوات الى «ضبط النفس».
ليشهد القطاع أبشع مجزرة في ذكرى إعلان تأسيس ما تسمى “دولة إسرائيل”، فقتلت قوات الاحتلال أكثر من 55 فلسطينياً وأصابت المئات. النضال السلمي في غزة لا يتوقف وكذلك المقاومة المسلحة، فضلاً عن جماهير غفيرة مؤمنة بحق العودة، تجمعت في أسخن منطقة حدودية لمواجهة “إسرائيل” سلمياً. حزن وغضب كبيران أصابا المدينة المحاصرة صباحاً، فأعلنت الإضراب، وخلت الشوارع من المارة والمركبات، إلا على الحدود التي تعيد رؤيتها من بعيد أمل العودة من جديد.
نعم الآمال التي يرسمها الفلسطينيون بالعودة إلى ديارهم، ما تزال معلّقة بسُحب سوداء تلبّد سماء قطاع غزة الثائر بنار السلمية وحجارة المقاومة ضد واحد من أجرم جيوش العالم، تحاول دول عربية أن تجهضها عبر دعوتها للتطبيع وتلويحها بضرورة القبول بـ”صفقة القرن”. وصفقة القرن هي تسمية أطلقتها واشنطن من أجل “حل القضية الفلسطينية” عبر الاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال، ومنح الفلسطينيين عاصمة أخرى.
لقد أعلنت السلطة الفلسطينية، الحداد لمدة 3 أيام على شهداء غزة، والإضراب العام في جميع الأراضي الفلسطينية بمناسبة الذكرى السبعين للنكبة. كما أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حداداً وطنياً في تركيا ثلاثة أيام؛ من أجل التضامن مع الشعب الفلسطيني. فيما أكدت عدة دول أنها لن تنقل سفارتها للقدس، وأدانت استخدام قوات الاحتلال “القوة المفرطة تجاه المدنيين”. وبدأ تشييع الشهداء في غزة، هادئاً هذه المرة، فدفنوا شهداءهم سريعاً وعادوا غاضبين مجدداً نحو الحدود التي لا تهدأ ولا تكل عزيمتها.
نعم تمر اليوم ذكر النكبة، ولبدأ نكبات، وذلك بداية في 15 أيار/ مايو، على أكثر من 12 مليون فلسطيني موزَّعين في بقاع مختلفة من العالم، الذكرى الـ70 لفقدان الفلسطينيين والعرب والمسلمين فلسطين عام 1948، بأرضها وبيوتها وزرعها وإرثها الثقافي كاملاً. واليوم يعد ذروة المسيرات التي انطلقت منذ 30 آزار/ مارس، وتعرف باسم “مسيرة العودة الكبرى”، والتي تنبئ الأوضاع باستمرارها، طالما بقي الحصار، واستمر التعنت الأمريكي، والعدوان الإسرائيلي.
من بين نكبات جديدة في الأثناء، يواصل عشرات المستوطنين المتطرفين اقتحاماتهم اليومية للمسجد الأقصى المبارك من باب المغاربة بحراسة مشددة من شرطة الاحتلال الخاصة. كما يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي استنفار قواته على امتداد الحدود الشرقية لقطاع غزة؛ خشية من تجدد التظاهرات السلمية إحياء للذكرى السبعين للنكبة الفلسطينية، ورفضًا للقرار الأمريكي بنقل السفارة إلى القدس المحتلّة.
هكذا تبدو ذكرى النكبة هذه المرة، حالة نضال عامة، استطاعت إعادة الاعتبار للتيار الشعبي الغائب في المشهد الفلسطيني، وكذلك إثبات وجود الإرادة لدى الشعب، والتأكيد على الرغبة في العودة. وكدليل على رمزية المسيرة وسلميتها واستمراريتها، نصب الفلسطينيون خياماً في مناطق متفرقة من الأراضي المتاخمة للسلك الحدودي الفاصل بين “إسرائيل” وقطاع غزة، وحملت أسماء مدن وقرى فلسطينية مهجّرة عام 1948. ولرمزيتها القوية، يعمل الاحتلال على إحراقها، فيبنيها المقاومون الشبان من جديد، وهكذا يبقى الفر والكر على الحدود، ومدى التحمل والصمود، هو الفيصل في هذه المواجهة التي يرى البعض إنها تمهد لانتفاضة عارمة انتصاراً للقدس المغتصبة.
في هذه الأجواء، أعلنت الهيئة الوطنية العليا لمسيرة العودة وكسر الحصار إنهاء فعاليات «مليونية العودة وكسر الحصار»، وأخلت كل أماكن التجمع القريبة من السياج الحدودي الفاصل حفاظاً على أرواح الفلسطينيين، من دون أن يتسنى للمتظاهرين عبور الحدود، كما اعلنت اضراباً شاملاً اليوم في الاراضي الفلسطينية حداداً على ارواح الشهداء. وأعلن الناطق باسم وزارة الصحة أشرف القدرة استشهاد 59 فلسطينياً، واصابة أكثر من 2410، بينهم 1200 بالرصاص الحي والمتفجر. وأعلنت وزارة الداخلية في غزة أن من بين الشهداء أربعة من منتسبيها. وفي ما بدا أنه رفض لـ”العرض” الذي أبلغته مصر لرئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» اسماعيل هنية أثناء زيارة قصيرة للقاهرة سابقة، تعهدت الحركة بعد جلسة مشاورات مع فصائل فلسطينية، «إسقاط صفقة القرن». وقال عضو المكتب السياسي للحركة خليل الحية خلال مؤتمر صحافي في غزة مساء أمس، ان «القدس خط أحمر… ومسيرة العودة مستمرة ونحن ندعمها… وشعبنا لن يتراجع». ودان المجزرة الإسرائيلية، معتبراً أن «دماء الشهداء غَسلت عار التطبيع والمطبعين»، وأن الرد على المجزرة «يجب أن يكون بانتفاضة عربية وإسلامية». وتعهد أن «يدفع العدو ثمن هذا القتل»، واستمرار «مطاردة العدو» و”حماية مسيرات العودة”.
النكبة الكبرى تأتي بعقد مجلس الجامعة العربية اجتماعاً طارئاً في شأن القدس، على مستوى المندوبين الدائمين للبحث في «سبل مواجهة قرار الولايات المتحدة غير القانوني» بنقل سفارتها الى القدس، يتوقع أن يدعو السفير الفلسطيني في الأمم المتحدة رياض منصور والسفير الكويتي في مجلس الأمن منصور عياد العتيبي المجلس الى جلسة عاجلة، قد تأتي بعد مشاورات أجروها مع رئيسة مجلس الأمن للشهر الجاري السفيرة البولندية جوانا رونيكا.
لأن قرار إحالة الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني على المحكمة الجنائية الدولية، سيُبحث على مستوى المجلس الفلسطيني خلال اجتماع كان مقرراً سابقًا. كذلك أعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن «القلق البالغ من أي عمل أحادي» في الشأن الفلسطيني – الإسرائيلي، مشدداً على أن «القدس هي واحدة من قضايا الحل النهائي التي يجب أن تحل عبر المفاوضات».
يبقى أن الادانات لم يسبق لها أن قدمت حلولاً، وأن السياسة قد لا تُصلح عمل الأقوياء، ولأن المنتصرين يكتبون التاريخ.. والأقوياء معهم.. فهم جميعًا يكذبون ويتجملون.. ويبقى أن الجميع إذا استمر في هذا الطريق.. فإن مجزرة الإثنين.. ستكون بداية لنكبات في ذكرى نكبة.

*كاتب وباحث في تاريخ العلاقات الدولية والسياسة الخارجية