فجأة أنت تفهم لماذا يركض الغزاويون إلى موتهم

فجأة أنت تفهم لماذا يركض الغزاويون إلى موتهم
Spread the love

بقلم: نحميا شترسلر – محلل سياسي إسرائيلي —

•كان هذا مشهداً صعب المشاهدة. وكان صادماً. صحيح أننا كنّا نعرف الفقر المدقع في غزة، وعمق البطالة وانعدام الأمل، لكن الحلقتين اللتين عرضهما أوهاد حمو في “حِفْرات هَحَدشوت/شركة الأخبار” هذا الأسبوع، كانتا أشبه بصفعة موجهة إلينا. وإذا كانت صورة واحدة تساوي آلاف الكلمات، فإن هاتين الحلقتين لخّصتا القصة كلها. كانتا توثيقاً مروّعاً شرح لنا جيداً لماذا شبان في مقتبل العمر مستعدون للركض نحو حتفهم على السياج. لا يقولوا لنا إن التظاهرات حدثت فقط لأن “حماس” دعت المتظاهرين إلى التسلل إلى إسرائيل واحتلالها. يعرف المتظاهرون أن هذا مستحيل. وهم يعرفون أن عشرات القناصة ينتظرونهم في الجانب الآخر. اليأس المطلق هو الذي يحركهم. من الصعب تخيُّل مدى تدهور حياتهم. وضعهم الاقتصادي مخيف، ليس لديهم مستقبل، وبالتالي ليس لديهم ما يخسرونه. بالنسبة إليهم موتهم أفضل من حياتهم.

•بدأت الحلقة الأولى بصورة لبضعة أولاد صغار تتراوح أعمارهم بين 8-9 أعوام، يحملون أواني بلاستيكية ويسيرون في طرقات خان يونس المغبرة إلى نقاط تعبئة المياه. وعندما يصلون إلى الحنفية لا يجدون فيها ماء. ينظرون إلى عدسة المصور بيأس: كيف سيعودون إلى منازلهم من دون مياه؟ مع العلم أن الماء يصل إلى هذه الحنفيات مرة كل خمسة أيام و97% من المياه في غزة ملوثة. وفي صورة قاسية أُخرى تروي ربة منزل أن النقص في الكهرباء بالنسبة إليها أصعب من النقص في المياه. وفي الواقع تصل الكهرباء فقط 4 ساعات يومياً، وليس كل يوم. ضعوا أنفسكم مكانهم.

•بعدها نشاهد أولاداً صغاراً يسيرون حفاة في مياه الصرف الصحي التي تتدفق بين المنازل في دير البلح. يقول أحد السكان: “نحن نعيش في مزبلة. جميع الأمراض في العالم موجودة هنا، ويومياً أولادنا في المستشفيات.

•الفجوة في المستوى المعيشي بيننا وبينهم لا يمكن تخيلها. أجر العامل في غزة هو 30 شيكلاً في اليوم [حوالي 8 دولارات]. العامل الذي يعمل خمسة إلى ستة أيام في معمل للنسيج (لديه نصف يوم فرصة في الأسبوع) ويعمل 14 ساعة، يقبض 800 شيكل في الشهر. وهو يُعتبر من المحظوظين. إذ يبلغ معدل البطالة 44% ويصل بين الشباب إلى 63%.

•لم يكن الوضع الاقتصادي في غزة يوماً سيئاً إلى هذا الحد. فقد تراجع عدد الشاحنات التي تنقل البضائع إلى القطاع إلى النصف، لأن الغزوايين ليس لديهم قدرة شرائية. والسبب الوحيد الذي يمنع الناس من الموت جوعاً هو المساعدة التي تقدمها وكالة الأمم المتحدة للاجئين (الأونروا)، ودعم محدود تقدمه “حماس”.

•لذا، من الواضح أنه إذا لم نخفف الحصار ولم نسمح لهم بتصدير بضائعهم إلينا وإلى الضفة والأردن، ولم نساعد في إقامة منشآت بنى تحتية، ومصانع، ومرفأ، سيتعمق الفقر، والانفجار القادم سيكون كبيراً جداً وسيجرفنا معه.

•في مساء ذلك اليوم ذهبت إلى ساحة رابين محاولاً أن أفهم آلية الإنكار التي تسمح لجمهور كبير بأن يرقص ويفرح مع نطع برزيلي [التي فازت بالجائزة الأولى في مسابقة اليوروفيجين] في اليوم الذي قُتل فيه على الحدود 60 شخصاً وجُرح 1200 بالنيران الحية. يخيل لي أنني فهمت شيئاً ما. جميع المتحدثين صرخوا بصوت قوي رسالة أساسية واحدة: “جئنا لنفرح، يجب أن نفرح، لا تتوقفوا عن الفرح، اظهروا للعالم كيف نفرح في إسرائيل”. كيف يمكن أن نفسر ذلك سوى أنه هرب من الواقع.

•من المؤكد أن أغلبية الذين تجمعوا في ساحة رابين فهموا أنه لا يمكنهم أن يفرحوا حقاً في ذلك اليوم. ويبدو أنهم جميعاً فهموا أيضاً أننا نجلس على برميل من البارود، وأن واقعنا الحقيقي هو واقع خوف وجودي مستمر من جميع الاتجاهات: إيران، سورية، الضفة الغربية وغزة. من هنا فإن الدعوة “افرحوا بقوة” لم تكن سوى محاولة لملء ثقب الخوف الكبير الأسود بالفرح المصطنع.

•إلى جميع هؤلاء الذين يقولون هذا هو الوضع وليس لدينا ما نفعله، سنخبرهم ماذا حدث في الساحة مع 12 امرأة جئن للتظاهر في الساحة وهتفن ضد الاحتفال، وضد الحصار على غزة، وذكّرن المحتفلين بـأن هناك 60 قتيلاً. لقد تعرّضن إلى كيل من الشتائم والإهانات، ومن دفع لهن بخشونة كان يمكن أن ينتهي بصورة سيئة لولا تدخل بعض رجال الشرطة للفصل بينهما، وفي النهاية جرى إخراجهن من الساحة. يا لها من شجاعة.

المصدر: صحيفة هآرتس الإسرائيلية، عن نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية