العقيدة الإسرائيلية الثانية للحرب

العقيدة الإسرائيلية الثانية للحرب
Spread the love

israeli-leadership

بقلم: رون تيرا – باحث في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي —

تقديم
[على رفوف المؤسسة العسكرية الأمنية وثائق عديدة تعرّف “مفهوم الأمن القومي” لدى إسرائيل، وغالبيتها “مصنفة” سرية، وتعرض صورة واضحة ومتماسكة نسبياً عن استراتيجيا الجيش وعقيدته القتالية الرسميتين. ولكن عندما نعود إلى الحملات العسكرية الست الكبيرة الأخيرة، التي شنها الجيش الإسرائيلي ما وراء الحدود، نجد أنه خاضها وفقاً لأنماط متكررة مغايرة للاستراتيجيا والعقيدة الرسميتين. وعندما نربط هذه الأنماط ببعضها البعض، نجد أنها ترقى إلى مستوى عقيدة حرب ثانية غير مكتوبة.
رون تيرا يشرح في هذا المقال الذي ننشره أدناه على حلقات هذه العقيدة غير الرسمية].

•على رفوف المؤسسة العسكرية/الأمنية وثائق عديدة محفوظة تعرّف “مفهوم الأمن [القومي]” لدى إسرائيل، وغالبيتها “مصنفة” [سرية]. وفي القسم غير المصنف يمكن تعداد كتابات بن – غوريون التأسيسية في خمسينيات القرن الماضي، وكتاب الجنرال (احتياط) يسرائيل طال، ومحاولة الجنرال (احتياط) دافيد عِفْري صياغة مفهوم للأمن في أواخر تسعينيات القرن الماضي، ومقتطفات سمح بنشرها من “تقرير لجنة مريدور”، وكتاب الجنرال (احتياط) بروفسور يتسحاق بن يسرائيل، ومنشورات تصف المسودة المعمقة، لكن “المصنفة”، التي أصدرها “مجلس الأمن القومي. ومؤخراً، نشرت وثيقة “استراتيجيا الجيش الإسرائيلي” بتوقيع رئيس هيئة الأركان العامة [غادي أيزنكوت] (لاحقاً استراتيجيا 2015). وعلى الرغم من أن مفهوم الأمن الخاص بإسرائيل لا يعنى فقط بالحرب وإنما أيضاً بالأمن الجاري، وبالحملات العسكرية بين الحروب. وبالعلاقات مع حلفاء وغير ذلك من الأمور، فإن معظم هذه المنشورات تعنى بمسألة كيف تحارب إسرائيل، مع تركيز أكبر على عقيدتها الذاتية [subjective] للانتصار في الحرب. والوثائق المذكورة أعلاه تعرض صورة واضحة ومتماسكة نسبياً لاستراتيجيا وعقيدة الجيش الإسرائيلي (على الأقل حتى ظهور مسودة مجلس الأمن القومي واستراتيجيا 2015، اللتين يلاحظ فيهما تغيير في التوجه).

•لكن بالنسبة للحملات العسكرية الست الكبيرة الأخيرة التي شنّها الجيش الإسرائيلي ما وراء الحدود، فقد خاضها بموجب أنماط متكررة، مغايرة للاستراتيجيا والعقيدة الرسميتين. وبالفعل، ثمة قاسم مشترك واسع بين حملات “محاسبة ” (1993)، و”عناقيد الغضب” (1996)، وحرب لبنان الثانية (2006)، و”الرصاص المصبوب” (2008 -2009)، و”عامود سحاب” (2012)، و”الجرف الصامد” (2014). وسيشار إلى هذه الحملات الست مجتمعة في هذا المقال بتعبير “حملات يحكمها منطق المحاسبة”. وهذا المنطق يهدف إلى صياغة قواعد اللعبة لسلوك الأطراف في الأوقات الاعتيادية التي تعقب المواجهة التي خيضت بواسطة ضربة عسكرية أو استزاف بالقوة النارية، وبممارسة ضغط غير مباشر، وكل ذلك من خلال تخصيص موارد محدودة والحد من المخاطر.

•ولو كان الأمر يتعلق بحالة مفردة لأمكن القول إن الأمر يتعلق بتقدير موضعي أو أنه انحراف عن العقيدة يستدعي تفحصه (مثلما حدث بالفعل في 2006). ولكن، بما أن إسرائيل والجيش الإسرائيلي تقيدا بأنماط سلوك نموذجي خلال ست حملات عسكرية على مر عقدين ونصف عقد من الزمن، يبدو أن الأمر لا يتعلق بخطأ وإنما بتطبيق عقيدة حرب ثانية جليّة (لا سيما وأن الجميع يعلم ماذا حدث في حملات “منطق المحاسبة” الست)، لكن هذه العقيدة لم تُصغ بشكل رسمي مما ولّد توترات متكررة بحكم تعارضها مع الوثائق الرسمية والتوقعات السائدة بشأنها في أوساط الجيش الإسرائيلي والجمهور.

•وبطبيعة الحال، لا بد من توضيح أن العقيدة الكلاسيكية صيغت أولاً وقبل كل شيء لمواجهة غزو خصوم دولتيين [جيوش نظامية]، بينما شنّت حملات منطق المحاسبة الست ضد خصوم غير دولتيين ضعفاء نسبياً، عملوا وفق منطق إلحاق أذى عام بدولة إسرائيل بواسطة إطلاق قذائف وصواريخ منحنية المسار من عمق أراضيهم، وليس بهدف تحقيق انتصار حاسم ضد الجيش الإسرائيلي أو احتلال أراض. وعلاوة على ذلك، يمكن الادعاء أنه في جبهة لبنان لا يوجد مكسب سياسي- استراتيجي مهم بمستطاع إسرائيل تحقيقه بشكل واقعي، ولذا غايتها السياسية – الاستراتيجية في لبنان كانت “سلبية” في جوهرها: تقليص الحاجة إلى الانشغال بهذه الجبهة إلى الحد الأدنى. ويمكن الادعاء أنه في جبهة قطاع غزة كانت غاية إسرائيل الحفاظ على الوضع السياسي – الاستراتيجي القائم، وليس إحداث تغيير فيه. وإذن، بالإضافة إلى محاولتنا في هذا المقال أن نربط بين عمليات إسرائيل العسكرية توصلاً إلى عقيدة متماسكة، ينبغي تحديد القرارات التي اتخذت في كل حالة على حدة، آخذين بعين الاعتبار ظروفها وسياقاتها الفريدة.

•ولا بد أيضاً من توضيح أن ادعاء الخروج عن العقيدة الإسرائيلية الكلاسيكية مبني على وقائع ونابع من محاولة تعقب أنماط سلوك متكرر ومميز وليس بالضرورة من قبيل النقد. وأساساً، إن قرار شن هجوم بري واسع (لم ينفذ في أي حملة من حملات “منطق المحاسبة”) يجب أن يكون نابعاً من تقييم أن هكذا هجوم سيسهم بشكل ملحوظ في تحقيق النتائج المرجوة في ظروف وسياق كل مواجهة محددة، وليس من التزام تلقائي بعقيدة قتالية.

الفكرة المركزية: ضربة قوية أو استنزاف بدلاً من الحسم

•في كل واحدة من الحملات العسكرية الست الكبيرة التي خاضتها إسرائيل ضد لبنان وغزة في العقد الأخير]، والتي “حكمها منطق المحاسبة”، لم يسع الجيش الإسرائيلي لتحقيق انتصار حاسم ضد الخصم، وإنما لتوجيه ضربة قوية للعدو أو استنزافه وتفعيل رافعات ضغط غير مباشرة، ومن خلال ذلك تحريك آليات دبلوماسية تسمح بإنهاء الحرب وإنجاز أهدافها. وفي الحقيقة لم يعمل الجيش الإسرائيلي وفق فكرة معركة يحكمها منطق حرمان الخصم من القدرة على القتال، أو حرمانه من القدرة على مواصلة نشاطه الرامي إلى إلحاق الأذى بدولة إسرائيل، بما في ذلك في الحالات التي طلبت فيها الأوامر الرسمية “استئصال التهديد” وما شابه. وكذلك، عندما حُددت في الظاهر أهداف بعيدة المدى مثل: “تحطيم حزب الله كتنظيم مسلح”، و”فرض سيادة حكومة لبنان على الجنوب”، لم يسعَ الجيش الإسرائيلي لتنفيذ فكرة حملة من شأنها تحقيق هذه الأهداف، ولذا، ثمة شك في ما يمكن اعتباره أهدافاً حقيقية. وعلى نحو مشابه، لم تفض ثلاث حملات عسكرية في قطاع غزة في غضون ستة أعوام إلى استئصال التهديد ذاته الذي عاود الظهور مجدداً.

•كانت أوامر الجيش الإسرائيلي الرسمية تلحظ حقاً ضرورة إدارة حملات قصيرة الأمد، لكن لم يعمل الجيش الإسرائيلي على تطبيق فكرة معركة كفيلة بجعل الحملات قصيرة، ولذا يجوز التساؤل ما إذا كان الجيش الإسرائيلي قد سعى حقاً لتقصير أمد الحملات المذكورة. وهذا الكلام ينطبق بصفة خاصة على حرب لبنان الثانية (التي لم يُدرك بُعدها الزمني بشكل جيد، ولم يدرك صناع القرار تأثير إطالة أمدها على الجبهة الداخلية المدنية)، وينطبق ذلك أكثر على “عملية الجرف الصامد”، حيث يمكن ادعاء أن إطالة أمد الحملة واستنزاف حركة “حماس” بمرور الوقت كان جزءاً من الفكرة “الحقيقية” لحملة إسرائيل. وعلاوة على ذلك، في كل من حرب لبنان الثانية، وحملة “الرصاص المصبوب”، وحملة “الجرف الصامد”، كانت هناك مراحل تريث ليست بالقصيرة بين استنفاذ الضربة النارية [الضربة الجوية] (ضرب الأهداف المدرجة مسبقاً ضمن بنك الأهداف قبل بدء الحملة) وبين بداية العمليات البرية. والمناورات البرية الهجومية التي أعقبتها كانت محدودة النطاق، ونفذت وفق منطق توغلات صغيرة نسبياً وعمليات خاصة، وضغط عام (على مشارف مدينة غزة في عملية “الرصاص المصبوب”)، أو كانت لضرورة محددة مثل تحييد خطر الأنفاق الهجومية في حملة “الجرف الصامد”. ولم تنفذ مناورات برية هجومية وفق منطق أوسع أو أكثر طموحاً، ولم تنفذ أي عملية برية جريئة واسعة.

•الفكرة المركزية “الحقيقية” للجيش الإسرائيلي كانت تقضي بأن يلحق الجيش بالخصم ضرراً أكبر (كمّاً ونوعاً) من الضرر الذي يلحقه الخصم بإسرائيل في الفترة الزمنية نفسها، توصلا إلى إقناع الخصم بعدم جدوى مواصلة القتال، وإقناعه، على الأقل، بقبول جزء من شروط إسرائيل في الترتيبات التي تعقب القتال، فضلاً عن تأسيس ردع كفيل بإبعاد موعد جولة القتال القادمة. وفي جزء من الحملات بُذلت أيضاً جهود أنتجت عَرَضاً رافعات ضغط غير مباشرة، مثل: إخلاء سكان العدو من مناطق مهددة، إغلاق بحري وجوي، ضرب بنى تحتية ثنائية الاستخدام يمكن استخدامها لأغراض عسكرية ومدنية، وما إلى ذلك. و”تقبّل” الجيش الإسرائيلي ضمنياً الضرر اللاحق بإسرائيل في مقابل إلحاق الأذى بالخصم (باستثناء ركيزة الدفاع [منظومات مضادة للصواريخ] في حملة “الجرف الصامد” التي حرمت حركة “حماس” من جزء كبير من قدراتها الهجومية). وبتعبير آخر، الفكرة المركزية الحقيقية كانت تقضي بإدارة “حملة عسكرية متوازية”: تمكين الخصم من تحقيق مخططه العملاني للمواجهة، وفي الوقت نفسه تنفيذ خطة مواجهة تلحق به أذى أكبر بكثير.

•عموماً يمكن القول إن الحملات العسكرية التي يحكمها “منطق المحاسبة” شملت أربع مراحل: الأولى، مرحلة ضربة نارية [ضربة جوية مكثفة] ضد بنك الأهداف المدرجة قبل بدء الحملة؛ الثانية، مرحلة تريث بعد استنفاذ الأهداف المدرجة مسبقاً، وقبل صدور قرار بشأن مناورة برية هجومية؛ الثالثة، مرحلة العمليات البرية (بشكل عام محدودة النطاق)؛ والرابعة، مرحلة إبقاء الضغط حتى ينضج الطرفان بشكل كاف لوقف إطلاق النار.
لماذا اختارت إسرائيل أن تعمل ست مرات وفق هذا النمط؟ من الصعب تقديم إجابة مدعمة بأدلة، لكن قد تكون الإجابة، بكل بساطة، لأنه كان بمستطاعها القيام بذلك. وتعكس الحملات التي يحكمها منطق المحاسبة تفضيلاً لإدارة الموارد والمخاطر بدلاً من أخذ مجازفات واحتمال دفع أثمان باهظة. إن المقاربة المعاصرة للمخاطر والأثمان يمكن فهمها من خلال [المقارنة التاريخية التالية]: اعتبرت عملية “موكيد” – ضرب المطارات [المصرية والأردنية والسورية] في بداية حرب الأيام الستة – نجاحاً باهراً للقوة المهاجمة [سلاح الجو الإسرائيلي] على الرغم من إصابة نحو 10% منها، بينما الحملة الجوية التي ختمت حرب لبنان الثانية اعتبرت أقل نجاحاً، وتوقفت عملياً عقب سقوط مروحية [نقل عسكرية] واحدة من طراز “يسعور” (CH-53). وهناك أيضاً اعتبارات إضافية قد تفسر لماذا آثرت إسرائيل اتباع النهج المذكور، ومن بينها تغيّر روح الشعب ومزاجه (ethos) القومي من مجتمع معبأ إلى مجتمع وفرة، فضلاً عن اعتبارات دبلوماسية إقليمية ودولية.

•لكن قد يمكن تعليل الأمور فيما يتعلق بهذه النقطة هكذا: ربما سمحت إسرائيل لنفسها بتطوير حساسية أكبر حيال تكبد خسائر بشرية، وبإعطاء وزن أكبر للاعتبارات الدبلوماسية لأنها تواجه تهديدات منخفضة نسبياً، ولو كانت تواجه تهديداً للوجود لما استطاعت أن تسمح لنفسها بذلك. كما يمكن ادعاء أن إسرائيل اختارت النهج المذكور نتيجة تطور تكنولوجي أثمر زيادة في المكسب الممكن تحقيقه من خلال قوة نيران موجّهة عن بعد آمن [standoff firepower]. ومع ذلك، قد يكون هذا الادعاء مستخلص من النقطة المذكورة إياها، أي أن إسرائيل تستطيع إنجاز ما هو أكثر بقوة النيران بحكم أنها تواجه أعداء أضعف. وربما لم تكن إسرائيل سمحت لنفسها باتباع نهج ضربة/ استنزاف بقوة نارية، لو أنها كانت تواجه خصماً ذا قدرات عالية، قادراً على الدفاع عن مجاله الجوي بهذا القدر أو ذاك من النجاح، وقادراً على تشويش الرصد الاستخباراتي الإسرائيلي أو قدرة سلاح الجو على الاستمرار في القيام بعمله، أو قادراً على تشكيل تهديد مضاد أكثر خطورة لا تستطيع إسرائيل السماح لنفسها الاكتفاء باحتوائه.

•إذن، يعكس “منطق حملات المحاسبة” تفضيلاً لاتخاذ قرارات مهمة في مرحلة متأخرة نسبياً، انطلاقاً من عدم الرغبة في الالتزام بخط سلوك معيّن (أكثر تكلفة وخطورة) قبل أن يتضح أن الأمر لا مفر منه تقريباً.

•وعملياً، يستشف من “منطق المحاسبة” أن صانع القرار الإسرائيلي مقتنع بأن نتيجة عملانية متوسطة منجزة بكلفة ومخاطر متوسطة مفضّلة على إمكانية تحقيق نتيجة عملانية ممتازة منجزة بكلفة ومخاطر مرتفعة (وذلك، كما سبق ذكره، لأنه يعتبره أمراً مسلّماً به أنه لا إمكانية في جبهة لبنان، على ما يبدو، لتحقيق مكسب سياسي – استراتيجي. وفي جبهة قطاع غزة كان طموح إسرائيل الحفاظ على الوضع القائم – أي أنه كان من المشكوك فيه إمكان تحقيق تغيير سياسي- استراتيجي ممتاز في أي من الحملتين).

•هذه التفضيلات ممكنة عندما تواجه إسرائيل خصماً غير دولتي ضعيفاً نسبياً، ولديها قدرة على اختيار نتيجة متوسطة منجزة بثمن متوسط، بينما في الماضي، وتجاه تهديد مصدره تحالف جيوش عربية غازية حجم قواتها يفوق حجم قوات الجيش الإسرائيلي بأضعاف مضاعفة، لم يكن لدى إسرائيل من خيار سوى المجازفة والقيام بعملية استباقية قبل خصومها. أما في الحملات العسكرية الست التي “يحكمها منطق المحاسبة” فقد كان مستوى التهديد منخفضاً، والسيناريو الأسوأ لم يكن خطيراً للغاية. وهكذا، بينما عاقب الواقع إسرائيل بقسوة على كل خطأ مرتكب في حرب يوم الغفران [1973]، وبينما لا يزال أثر تلك الأخطاء مؤثراً حتى اليوم، فإن عقوبات الأخطاء المرتكبة في حرب لبنان الثانية وحملتي “الرصاص المصبوب” و”الجرف الصامد”، كانت ضئيلة وسرعان ما طواها النسيان، على الأقل جزئياً.

•إن ما كان على المحك في الحملات العسكرية الست التي “يحكمها منطق المحاسبة” لم يكن أمراً من العيار الثقيل: عموماً، مفاوضات عنيفة بشأن الحدود الدقيقة لحرية السلوك العنيف للأطراف في “الأوقات الاعتيادية”، أو حادثة خرجت عن السيطرة (“خطأ في التقدير”)، مما جعل صانع القرار الإسرائيلي يعتقد، على ما يبدو، عن معرفة أو عدم دراية، بأن الأمر لا يستدعي وسائل وأساليب من العيار الثقيل.

•ويعكس “منطق المحاسبة ” أيضاً تغييراً في المقاربة لأرض الخصم: لم يعد يُنظر إلى المناورة البرية الهجومية على أنها فرصة ناجحة لإفقاد الخصم توازنه أو الاستيلاء على أرض كورقة مساومة، بل صار التوغل الموقت في أرض العدو يعتبر عبئاً وليس رصيداً. وهكذا، خوفاً من تكبد خسائر بشرية ومن خسارة تأييد الجمهور في إسرائيل، وصبر المجتمع الدولي- وفي غياب مركز ثقل عملاني مادي للعدو في بقعة جغرافية محددة- امتنع صانع القرار الإسرائيلي عن تنفيذ مناورة برية هجومية واسعة، واكتفى بقوة نارية، بالإضافة إلى توغلات صغيرة نسبياً، وعمليات خاصة وعمليات برية محدودة بأقل قدر من الاحتكاك مع الخصم.

الدخول في الحملة
•عموماً، ولدت الحملات العسكرية [الست الكبيرة التي خاضتها إسرائيل ضد لبنان وغزة في العقد الأخير]، والتي “يحكمها منطق المحاسبة” من عدم الرضا عن حدود حرية السلوك العنيف للأطراف في الأوقات الاعتيادية: سواء حدود إطلاق النار “المسموح به” لحزب الله أو حركة “حماس” ضد الجيش الإسرائيلي وإسرائيل في الأوقات الاعتيادية، أو حدود الرد “المسموح به” للجيش الإسرائيلي. أحد الأطراف لم يعد يقبل “مواصفات” هذا العنف في الأوقات الاعتيادية، وصعّد وتيرة (الضربات المتبادلة التي هي جزء من الروتين المسموح به) من وتيرة منخفضة إلى وتيرة متوسطة/مرتفعة بهدف إجراء مفاوضات عنيفة لإعادة تعريف حدود حرية السلوك المسموح به. وتلحظ وثيقة مجلس الأمن القومي ما يلي: “…القرار بشأن مستوى العنف في الأوقات الاعتيادية لا يترتب عليه فقط تغيير بسيط في خصائص السلوك في الأيام الاعتيادية، وإنما [أحياناً يستوجب، ر. ت.] انتقالاً إلى حالة طوارئ”. وفي معظم الحالات كانت إسرائيل هي التي تعمد إلى التصعيد، وتبعاً لذلك فإن مسألة الإنذار المبكر في العقيدة الكلاسيكية لم تكن ذات صلة بالموضوع.

•اندلعت حرب لبنان الثانية من جراء حادثة على الحدود خرجت عن السيطرة، ولم يدرك الطرفان التبعات التصعيدية لأفعالهما (خطأ في التقدير)، لكنها [الحرب] تحولت عملياً إلى مواجهة لتعيين حدود السلوك العنيف للطرفين في الأوقات الاعتيادية. وقد يكون هناك أيضاً في الدخول في عملية “عامود سحاب” [2012] شيء من الخطأ في التقدير، لأن إسرائيل لم تدرك الانعكاس التصعيدي لاغتيال [القيادي في حركة “حماس”] أحمد الجعبري.

•إن الدخول إلى “عملية الجرف الصامد [2014]” قد يكون الاستثناء الأكثر تعقيداً في حملات منطق المحاسبة الست، حيث أن جذور المواجهة تكمن في القطيعة بين “حماس” وإيران على خلفية الحرب الأهلية السورية والقطيعة بين “حماس” ومصر على خلفية انقلاب السيسي، وفشل جهود المصالحة الفلسطينية الداخلية. وهكذا، من منظور “حماس”، دُفعت الحركة إلى “حرب لا مفر منها” بهدف كسر عزلتها والضائقة الاقتصادية لقطاع غزة. إن حملة “الجرف الصامد” هي الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، فقد اندلعت لأن”حماس” قدرت حينئذ أنه ليس لديها خيار آخر، وليس لأنها اختارت خوض مفاوضات مسلحة حول السلوك في الأوقات الاعتيادية أو جرّاء خطأ في التقدير. كما أن الخروج من حملة “الجرف الصامد” كان معقداً للغاية، لا سيما وأن إسرائيل سعت لإلحاق ضرر كبير بالقدرات العسكرية للحركة، لكن من دون أن تمس بموقعها كصاحب السلطة الفعلية في قطاع غزة، وقد تكون سعت أيضاً للإبقاء عليها كثقل موازن للسلطة الفلسطينية وكـ”بوليصة تأمين” ضد تسوية مفروضة [للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني]. وسنتحدث عن فرادة إنهاء حملة “الجرف الصامد” لاحقاً. ومع ذلك، هناك جوانب عديدة في حملة “الجرف الصامد” لامست (بشكل غير حصري) حدود حرية السلوك العنيف للأطراف في الأوقات الاعتيادية اللاحقة. وعلاوة على ذلك، هناك في هذه الحملة العسكرية نوع من الخطأ في التقدير، لأنه إذا كان كل من إسرائيل و”حماس” راغب في استمرار سلطة “حماس”، فالأَولى بإسرائيل أن تتيح لقطاع غزة الحد الأدنى من قابلية البقاء الاقتصادي، ولا ضرورة لمواجهة عسكرية.

الخروج من الحملة
•لم يكن إنهاء المواجهة في أي حملة من حملات منطق المحاسبة وليد النتائج المباشرة لاستخدام القوة العسكرية. فبعد انقضاء زمن كاف، توصل الطرفان إلى الاستنتاج بأنهما استنفذا الخطوات التي هما مستعدان للقيام بها وليس الخطوات التي هي في متناول قدرتهما)، وتوصلا إلى أن الزمن لم يعد في صالحهما، فاختارا الخروج من المواجهة. وفي معظم حملات منطق المحاسبة، وافق خصوم إسرائيل على وقف إطلاق النار قبلها، وكانت إسرائيل هي التي أصرت على إطالة أمد القتال (حملة “الجرف الصامد” هي الاستثناء الأبرز). وقد يكون الإصرار على وقت إضافي نابعاً من عدم تماسك منطقي لدى إسرائيل، التي انتظرت لسبب ما تبلور نتيجة وفق نظرية الحسم الكلاسيكية، بينما كانت تدير الحملة وفق نهج ضربة أو استنزاف، وهو نهج غير قادر أساساً على إنتاج نتيجة حاسمة. ولعله كان من شأن تماسك منطقي إسرائيلي أن يفضي إلى وقف فوري لمعظم الحملات العسكرية بعد الضربة النارية [الضربة الجوية] الأولية.

•حملات “محاسبة” [1993]، و”عناقيد الغضب” [1996]، و”حرب لبنان الثانية [2006]، و”عامود سحاب” [2012]، انتهت بآلية إنهاء دولية أفضت إلى ترتيبات واضحة (بعضها مكتوب) لقواعد اللعبة العسكرية المسموح بها في الأوقات الاعتيادية التي تعقب كل حملة. وحملة “عامود سحاب” انتهت بالإضافة إلى ذلك بتسوية مواضيع اقتصادية معينة مثل [السماح للصيادين الفلسطينيين] بالصيد [في بحر غزة] و[تمكين المزارعين الفلسطينيين] من استغلال أراض زراعية [في المنطقة العازلة] الواقعة بمحاذاة الشريط الحدودي. وانتهت حملة “الرصاص المصبوب” [2008-2009] بآلية إنهاء دولية، لكن من دون ترتيب واضح للأوقات الاعتيادية اللاحقة. أما حملة “الجرف الصامد” [2014] فكانت استثنائية من حيث أنها انتهت بفعل جهد دبلوماسي سياسي قام به لاعبون إقليميون، مع تدخل محدود للقوى الكبرى والأمم المتحدة، وأفضى إلى توافق بشأن تخفيف معيّن للضائقة الاقتصادية لقطاع غزة.

•بيد إن السمة الرئيسية لإنهاء أغلب حملات منطق المحاسبة هو التباين بين الترتيبات الرسمية التي أنهت الحملات وبين الواقع الذي نشأ في إثرها. “عملية محاسبة” [1993] انتهت ﺑ “تفاهمات محاسبة” دام مفعولها عامين، إلى أن عاود حزب الله إطلاق النار على مستوطنات الشمال. “تفاهمات عناقيد الغضب” [تفاهم نيسان 1996] دامت أعواماً عدة. وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 الذي وضع حداً لحرب لبنان الثانية [2006] تضمن ترتيباً طموحاً، يستند إلى قوة دولية متعددة الجنسيات معززة وتتمتع بصلاحية استخدام القوة، بيد أنه لا يُنفذ في الواقع (على سبيل المثال، نزع سلاح حزب الله، منع انتشاره في جنوب لبنان، حظر تزويد حزب الله بالسلاح، وحظر طلعات جوية إسرائيلية فوق سماء لبنان)، وقد بقي حبراً على ورق. وأيضاً قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1860 الذي صدر خلال حملة “الرصاص المصبوب” [دعا إلى وقف إطلاق النار] لم يكن له تأثير في الواقع. كما أن الترتيب الذي أعقب حملة “عامود سحاب” استمر لفترة قصيرة، وجزء منه لم ينفذ أبداً. وأيضاً بنود في الترتيب الذي أعقب حملة “الجرف الصامد” كانت لأغراض دعائية، وكان واضحاً من البداية لجميع الأطراف أن هذه البنود لن تنفذ (مرفأ في قطاع غزة، تحرير الأسرى، جعل قطاع غزة منطقة منزوعة السلاح، وغير ذلك).

•إذن، ما شكّل روتين الأوقات الاعتيادية التي أعقبت الحملات العسكرية لم يكن الترتيبات الرسمية، وإنما تأثير كل حملة وحملة والتأثير المتراكم لمجمل الحملات على إسرائيل من جهة، وعلى حركة “حماس” و/أو حزب الله من جهة ثانية. فحملات منطق المحاسبة الست أوضحت لجميع الأطراف معادلة الثمن مقابل المكسب في مواجهات من هذا النوع. وأثمان المواجهات هي التي حددت بالكيّ بالنار قواعد اللعبة وحدود حرية السلوك العنيف في فترات “الأوقات الاعتيادية”. ولمّا كانت الحملات نابعة من خيار الأطراف أو من خطأ في التقدير (ما عدا حملة “الجرف الصامد”، وذلك من منظور حركة “حماس”)، ولمّا كانت الأطراف لم تعمل عموماً للدفاع عن مصالح وجودية أو حيوية وإنما عن مصالح من الدرجة الثانية، فإن اتضاح اقتصاديات المواجهة (كلفتها وفق معايير متعددة) قد يكون هو الذي شكّل العامل الرئيسي المكوّن للواقع المولود من رحم هذه المواجهات.
ع
•الطرفان مردوعان إلى حدّ ما عن خوض مواجهات من هذا النوع. والردع يتوقف على ما قد يستجدّ، وقد يكون كافياً في سياق مصالح من الدرجة الثانية ولكنه قد لا يكون كافياً بالضرورة لأوضاع تكون فيها مصالح من الدرجة الأولى على كفة الميزان. وعلاوة على ذلك، حقيقة أن مواجهات كهذه عادت وتكررت ست مرات، تبيّن أن الردع الناتج عنها محدود حتى في سياق مصالح من الدرجة الثانية.

•لقد أدرك كل من حركة “حماس” وحزب الله حدود قوتهما في مواجهة إسرائيل (وفق قدراتهما في هذا الوقت أو ذاك)، بينما أدركت إسرائيل مقيدات قوتها في أوضاع تعمل فيها بقوة متوسطة، ومن دون استعداد لدفع أثمان باهظة.

استراتيجيا 2015
•وثيقة “استراتيجيا الجيش الإسرائيلي” لعام 2015 تقطع شوطاً طويلاً في اتجاه ملاءمة العقيدة مع الممارسة المتّبعة منذ عقدين ونصف عقد. وهي تعترف صراحة بمسألة اقتصاديات المواجهة، وتميز بين حرب تتطلب حشداً جوهرياً للموارد واستعداداً لتحمل مخاطر، وبين وضع “طوارئ” (أي حملة عسكرية محدودة) يكون فيه حشد الموارد والمخاطر محدوداً. وتبعاً لذلك، تميز استراتيجيا 2015 بين حروب مطلوب منها “تغيير الوضع من أساسه، إلى حد تغيير للميزان الاستراتيجي يتجلى ﺑ”تحييد اللاعبين”، وبين أوضاع تكتفي فيها القيادة السياسية ﺑ”الحفاظ على الوضع الاستراتيجي أو تحسينه”. والمطلوب في الحملة العسكرية هو فقط تجسيد “عدم جدوى استخدام القوة ضد إسرائيل”. كما تميز الاستراتيجيا الجديدة بين مواجهة مع خصم دولتي وبين مواجهة مع خصم غير دولتي.

•تقلّص هدف الجيش الإسرائيلي في حملة عسكرية محدودة ضد خصم غير دولتي في استراتيجيا 2015 إلى “استخدام التفوق العسكري من أجل إنجاز أهداف الحملة كما حددتها القيادة السياسية”، وإلى “إلحاق أذى محدود ومحدد بالخصم”، بينما انحصرت فكرة الحسم بالمستوى التكتيكي فقط (حسم عسكري “في كل مواجهة” مع العدو). وتحدد استراتيجيا 2015 أنه في حملة عسكرية محدودة ينبغي [“أن نظهر، ر. ت.] للعدو فداحة الضرر الممكن الذي عليه أن يتوقعه… والجدوى المنخفضة لقتاله”. وفي سياق تطور لاحق (أساساً في أعقاب حملة “الجرف الصامد”)، وجريا على منوال تقرير لجنة مريدور ومسودة مجلس الأمن القومي، تضيف استراتيجيا 2015 إلى ركائز مفهوم الأمن التقليدية الثلاث لإسرائيل ركيزة الدفاع.

•ومع ذلك، فيما يتعلق بحملة عسكرية ضد خصم غير دولتي، لا تزال استراتيجيا 2015 أيضاً تتحدث عن “انتصار”، وعن “حرمان العدو من قدراته عن طريق تدمير قواته”، وعن “دفاع فعال ضد حركة حماس”، من خلال، بين أمور أخرى، “سيطرة عملانية على منطقة واسعة من أجل وضع حد لإطلاق النار منها”. وتضيف الوثيقة أن المقاربة الرئيسية في الجيش الإسرائيلي تنطوي على خداع الخصم، على الرغم من أنه يسعنا القول إنه في ست حملات “يحكمها منطق المحاسبة” لم تنفذ أي خدعة (تتعدى عمليات موضعية أو قامت بها مستويات قيادية منخفضة). وتحدد الوثيقة أنه حتى في حملة عسكرية محدودة في مواجهة خصم غير دولتي ينبغي تنفيذ “مناورة برية فورية”، على الرغم من أنه في الحملات التي “حكمها منطق المحاسبة” نفذت مناورة برية في وقت متأخر، لأن صناع القرار أرادوا تأجيل المناورة البرية (المكلفة والأكثر خطورة) بقدر الممكن عملياً، أو نفذت مناورة محدودة لم تسهم بشكل ملحوظ في تحقيق أهداف الحملة العسكرية، أو لم تنفذ مناورة على الإطلاق.

•لعل استراتيجا 2015 تعطي وزنا أكبر للمواجهة المحدودة مع خصم غير دولتي، وتبعا لذلك تعطي وزنا أقل لمواجهة مع خصم لديه قدرات وفيرة. إنما ينبغي خلق توازن بين الجهوزية للسيناريو المرجح (المتكرر) وبين الجهوزية لسيناريو ينطوي على مخاطر، ولعل استراتيجيا 2015 تميل أكثر من اللزوم للسيناريو المتكرر. وحتى لو كان من الصعب في هذه اللحظة تصور مواجهة قريبة مع خصم دولتي لديه قدرات وفيرة، ينبغي أن يكون السيناريو الثاني هو المنارة التي على ضوئها تُبنى قوة الجيش الإسرائيلي.

نظرة مستقبلية إلى المواجهات
•ربما يمكن فهم لماذا اختارت إسرائيل أن تعمل وفق أنماط تعكس إعطاء الأفضلية لترشيد التكاليف وتقليل المخاطر، أي أنها اختارت تحقيق نتيجة عملانية متوسطة بتكلفة متوسطة، مثلما اختارت عملياً إرجاء اتخاذ قرارات مهمة بقدر الإمكان في أوضاع واجهت فيها خصوماً غير دولتيين ضعفاء تنحصر قدراتهم في إطار التسبب بضرر (وبالتالي لا يشكلون، على سبيل المثال، تهديداً متمثلاً بضربة كبيرة للجيش الإسرائيلي أو باحتلال أراض)، وعندما تكون المصالح المدافَع عنها من الدرجة الثانية. ويمكن فهم ذلك في سياقات تستطيع فيها دولة إسرائيل أن تسمح لنفسها بامتصاص الضرر الذي يسببه الخصم، مع علمها أنه في المقابل يتلقى ضربة أشد بكثير، وذلك من دون إزالة التهديد ومن دون ضرب قدرات الخصم القتالية بشكل مؤثر.

•لكن من الخطير أن تنسحب هذه التفضيلات على ما هو أبعد من السياقات المذكورة أعلاه. أولا، يمكن التساؤل ما إذا كانت أنماط السلوك المذكورة ملائمة لأوضاع تكون فيها إسرائيل في مواجهة خصوم أقوياء، يستطيعون إيذاء إسرائيل بعمل أشد وقعاً، أو في مستطاعهم العمل بفعالية ضد الجيش الإسرائيلي. بل أكثر من ذلك، إن خصماً غير دولتي مثل حزب الله يكتسب قدرات جديدة يمكنها المساس بشدة بعمل المؤسسات العسكرية، والمدنية، والاقتصادية لإسرائيل أمر يستدعي إعادة تقييم جدوى العمل وفق “منطق المحاسبة” في المواجهة المقبلة مع حزب الله. وعلى ضوء التغيير النوعي في قدرة حزب الله على إلحاق الأذى بإسرائيل، ينبغي إعادة تفحص منطق إدارة حملة عسكرية يقوم فيها كل طرف بتنفيذ خطته العملانية بالتوازي، وتقريباً “من دون تشويش” من الطرف الآخر، على مدى أيام وأسابيع عدة، وفقط بعد انقشاع الغبار يجري قياس أي طرف تسبب للطرف الثاني بالضرر الأكبر. كما ينبغي إعادة النظر في قابلية تطبيق ركيزة الدفاع في مواجهة تشكيلة القوة النارية المتطورة والمشبعة لحزب الله. وقد يكون من الخطأ في المواجهة المقبلة مع حزب الله التمهل وتأجيل أخذ قرارات صعبة، وقد يكون من الضروري التبكير في اتخاذ القرار، والالتزام في مرحلة مبكرة بأنماط سلوك سريعة وجريئة تنطوي على مخاطر محتملة وأثمان كبيرة.

•وفي كافة الأحوال، ينبغي على الجيش الإسرائيلي أن يحافظ على الأقل على كفاءة خوض حرب على طريقة “المدرسة القديمة”. إنما بعد أن تعلمت أجيال من القادة النظر إلى القتال على أنه ليس أكثر من عملية “تقنية” تتمثل في إزالة الأهداف المدرجة مسبقاً في بنك الأهداف، ليس واضحاً إلى أي حد تفهم القيادات العليا الحرب بكل مستوياتها الأكثر تعقيداً من مجرد إعداد قائمة إحداثيات من 14 رقماً. وليس واضحاً ما إذا كان لا يزال يوجد في ثقافة الجيش الإسرائيلي الحالية، المادة الجينية الضرورية لعمليات جريئة (على مستوى أعلى من المستوى التكتيكي أو مستوى العملية الخاصة)، أم أن المادة الجينية لإدارة المخاطر [استناداً إلى منطق التقليل من الخسائر والمخاطر] قد أصبحت مهيمنة على مستويات القيادة العليا. وليس واضحاً ما إذا كان هناك اليوم قائد مؤهل لقيادة قوات كبيرة في مناورة برية هجومية مفاجئة، جريئة وسريعة، ومؤهل لإدارة معركة ديناميكية غير مخطط لها مسبقاً، ولقطع مسافة عشرات الكيلومترات في اليوم الواحد. وليس واضحاً ما إذا كانت توجد في إطار التواصل بين القيادتين العسكرية والسياسية قدرة على اتخاذ قرارات مبكرة، أو أن الثقافة التنظيمية الحالية تتطلب التريث واتخاذ قرارات متأخرة، وحتى عندئذ اتخاذ قرارات محدودة.

•ومن منظور أوسع، يمكن التساؤل عما إذا كانت حقيقة أن إسرائيل اختارت ست مرات متتالية أن تحقق نتيجة متوسطة باستثمار متوسط قد أفضت إلى حد ما إلى تآكل الصورة المتراكمة للقوة الإسرائيلية في نظر خصومها وحلفائها وأطراف ثالثة. وربما لو كانت إسرائيل اتبعت أنماط سلوك مختلفة، لما كانت وصلت إلى وضع يحتم عليها خوض ست حملات عسكرية متشابهة، أو أن تخوض في العقد الأخير حملة عسكرية واحدة “يحكمها منطق المحاسبة” كل ثلاثين شهراً بالمتوسط. وفي بعض الحالات على الأقل، مثل حرب لبنان الثانية، شنت إسرائيل الحملة العسكرية أيضاً بهدف كسر توازن الردع المتبادل، أي من أجل زيادة حرية حركتها، وضمنياً تقليص حرية حركة الخصم. ولكن يمكننا القول، على العموم إن هذا الهدف لم ينجز. ولعل حقيقة أنه أصبح يُنظر إلى إسرائيل على أنها لاعب يخشى المجازفة ويتريث ويواجه صعوبة في اتخاذ قرارات كان لها انعكاسات أيضاً على مسائل إقليمية أكثر أهمية.

خلاصة
•يمكن الإدعاء بأنه منذ تسعينيات القرن الماضي تطورت في الجيش الإسرائيلي عقيدة عسكرية ثانية غير منظمة (في بدايتها)، وأنها تشكل موجهاً رئيسياً لاستخدام القوة، وتتغلب حتى على منطوق أوامر العمليات الرسمية، وفي ما يلي خصائصها:

1.هذه العقيدة الثانية طبقت في مواجهات ضد خصوم غير دولتيين جوهر قدرتهم يكمن في التسبب بضرر عام تستطيع إسرائيل امتصاصه، وليس بمقدورهم تهديد الجيش الإسرائيلي أو الحدود. وقد عمد هؤلاء الخصوم إلى إطلاق قذائف وصواريخ منحنية المسار من عمق أراضيهم، ولم يكن لديهم مركز ثقل عملاني جغرافي (انتشار في أنحاء متفرقة). وإسرائيل لم تسع إلى تغيير الواقع السياسي – الاستراتيجي لعدم قدرتها على ذلك، أو لعدم رغبتها في ذلك. وقد اندلعت المواجهات المذكورة بسبب عدم الموافقة على مواصفات السلوك العنيف “المسموح به” في “الأوقات الاعتيادية” أو بسبب خطأ في التقدير، فكانت بمثابة مفاوضات عنيفة حول شروط السلوك الاعتيادية التي أعقبت المواجهات. وبصورة عامة، كانت إسرائيل هي التي صعدت بكثافة متوسطة/عالية. والمصالح التي كانت على المحك هي من الدرجة الثانية (ما عدا مصالح حركة “حماس” في حملة “الجرف الصامد”).

2.فضّلت إسرائيل العمل بناء على حسابات الكلفة والمخاطر. وفضلت نتيجة عملانية متوسطة بتكلفة متوسطة على فرصة تحقيق نتيجة عملانية لامعة بخطر وتكلفة كبيرين. وآثرت اتخاذ قرارات متأخرة، وعلى نطاق ضيق بقدر الممكن عملياً، وعدم الالتزام بالقيام بخطوات مكلفة في مرحلة مبكرة، أو ما لم يكن الأمر حيوياً.

3.عملت إسرائيل وفق منطق ضربة أو استنزاف. و”تقبلت” سلوك الخصم ضدها (باستثناء الدفاع الناجح الذي تحقق في حملة “الجرف الصامد”) ولم تقض على التهديد، ولكن بموازاة ذلك ألحقت بالخصم ضرراً أكبر بكثير، كماً ونوعاً، واستخدمت رافعات غير مباشرة للضغط عليه.

4.اختارت إسرائيل استخدام القوة النارية، وكانت المناورات البرية مُختزلة وقدمت مساهمة محدودة. وجوهر قيمة القوة النارية كان تدمير بنك الأهداف المدرجة سابقا قبل بدء الحملة العسكرية، وهكذا استنفذت إسرائيل معظم الضرر الذي سعت إلى إلحاقه بالخصم في الأيام الأولى.

5.كانت إسرائيل هي التي أصرت على إطالة أمد المواجهة حتى بعد أن وافق خصومها على إنهائها (ما عدا في حملة “الجرف الصامد”)، وبذلك أظهرت عدم تماسك منطقي بين العقيدة وبين التوقعات: انتظرت بشكل خاطئ تبلور نتيجة حاسمة، بينما كانت تعمل وفق نهج ضربة أو استنزاف. وانتهت المواجهات عندما توصل الطرفان إلى نتيجة مفادها أنهما استنفذا الخطوات التي هما مستعدان لتنفيذها، وأن الزمن لا يعمل لصالحهما. وانتهت غالباً في سياق آلية دولية أفضت إلى ترتيب سياق الأوقات الاعتيادية اللاحقة.
6.في معظم الحالات، لم يصمد الترتيب الرسمي للأوقات الاعتيادية أمام امتحان الواقع، وما قولب السياق الحقيقي للأوقات الاعتيادية كان معادلة التكلفة/ الفائدة للمواجهة. إن الطرفين مردوعان – بدرجة محدودة وموقتة ورهن السياق اللاحق – عن خوض مواجهات من هذا النوع، ولذا يقبلان بقيود تقيد حرية سلوكهما العنيف في الأوقات الاعتيادية.

•إن الاستعدادات لمواجهة عسكرية مع خصم كثير القدرات أو لحرب لبنان ثالثة يمكن أن تجبر إسرائيل على الخروج من منطقة الارتياح الجديدة التي يحكمها “منطق المحاسبة”، وأن ترغمها على العمل في وقت مبكر وعلى اتباع نهج جريء مكلف وينطوي على مخاطر.

المصدر: مجلة “عدكان استراتيجي” الإسرائيلية، مجلد 19، عدد 2، تموز/يوليو 2016، عن نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية