أحمد بلاس إينفانتي ووجود الأندلس

أحمد بلاس إينفانتي ووجود الأندلس
Spread the love

بقلم: د. ناديا ظافر شعبان _ كاتبة وروائيّة من لبنان/

“نحن لا نستطيع، ولا نريد أن نكون أوروبيّين، ولن نتوصّل أبداً إلى ذلك. ظاهريّاً، أصبحنا من خلال الزيّ وبعض العادات التوحيديّة، نُشبه النموذج الذي فرضه المتسلّطون علينا وكرَّسوا أن نكون على غراره. لكنّنا ظللنا دائماً على ما نحن عليه في الحقيقة: أورو- أفريقيّين، أورو- شرقيّين، قوماً عالَميّين”. تختصر هذه الأسطر القليلة المتمحورة حول واقع الأندلس المعاش وكينونتها التاريخيّة، الفكر الاجتماعيّ والسياسيّ لابن مُقاطَعة مالقة “بلاس إينفانتي” المولود في كساريس في العام 1885.

إنّه المؤرِّخ والأنتروبولوجي والكاتِب والصحافي والمُحاضِر الكبير، الذي اشتهر باسم أحمد بلاس إينفانتي. وقد جاء كلامه بعدما زار قبر المُعتمد بن عبّاد في أغمات في أيلول (سبتمبر) من العام 1924، وتلا الشهادة في أحد مَساجدها، بحضور مغارِبة من أصول موريسكيّة.

ارتوت أندلسيّته، وكما يشير إلى ذلك علي مانزانو، من قراءته للمُستعربين الكِبار أمثال خولليان ريبيرا وأسين بلاثيوس، ودوزي، وبروفنسال، ومن تعايشه مع زملائه المثقّفين، من بينهم جيل بن أميه وأبيل غودرا في المراكز الأندلسيّة والمَجالس اللّيبيراليّة التي أسَّسها، كما من تواصله مع المنفيّين العرب في الأندلس، مثل الأمير شكيب أرسلان وإحسان الجابري.

شكَّل الدفاعُ عن وجود الأندلس، المُغيَّبة الحضور والهويّة، قضيّةَ القضايا عند عمر أحمد بلاس إينفانتي، بدءاً من تاريخها الأوّل، مروراً بأوْربتها وصَهْرها في بوتقة قشتالة التي صار تاريخها الحقيقة الوحيدة في إسبانيا، وكأنّه لم يكُن للأندلس تاريخ سابق لغزو قشتالة لها.

لكنّ الكنه الحقيقي للأندلس كان ما يزال الأقوى تأثيراً في نهر ثقافي ديماسي، وينبغي إنقاذه لتسترجع الأندلس ذاتها، وتُبعث كمنطقة متميّزة إنسانيّاً وثقافيّاً عن باقي المناطق الإسبانيّة، وتحيا كما كانت في العهد الإسلامي، حرّة ومُتسامِحة، ويُسهِم إنسانها المُبدع في بناء حضارة محليّة وعالَميّة، يشعّ نورها من قرطبة الأمويّة ليملأ الدنيا كلّها.

بعْث الأندلس إذاً، لم يكُن في مفهوم إينفانتي يعني انزواءها في جنوب الخريطة، التي تشكِّل جزءاً من وحدتها؛ وهو كما يشير لاكومبا فعلٌ تكامليّ وتضامنيّ “فالروح الإسبانيّة هي نسيج من تشاتُل قوى مناطقيّة”. وبعْث الأندلس يُساعد إسبانيا على التجدّد، ويمنحها القوّة لتتجاوز محنتها الأليمة بعد خسارتها آخر مُستعمراتها في ما وراء البحار، خسارة كان من نتائجها الضياع السياسي، وأزمات اقتصاديّة- اجتماعيّة حادّة، أفرزت جنوباً وشمالاً، في كتالونيا ومنطقة الباسك، الحركات الجمهوريّة والفيدراليّة، والحركات القوميّة الداعية إلى المناطقيّة الفيدراليّة، وهو ما كاد يهدِّد وحدة كيانها وتضعْضعها.

في أجواء إسبانيا المضطّربة والمُحبطة، وفي مجتمعٍ مُغلَق على أيديولوجيا رفض “الآخر” المُختلف ديناً ولغةً وثقافةً، بدأ إينفانتي كاتِباً مسيرة نضاله الطويلة (1910) من إشبيلية، بهدف بعْث الأندلس والدفاع عن وجودها في بانوراما التاريخ الإسباني. في “المثل الأعلى الأندلسي” وهو أهمّ كُتبه الاثني عشر وأوسعها انتشاراً، تناولَ الإشكاليّة التاريخيّة والاجتماعيّة للأندلس، داعياً الأندلسيّين لمعرفة حقيقة تاريخهم واسترجاعه، داحِضاً النظريّات العنصريّة السائدة حتّى زمنه، ومُدافعاً عن الأصول الأفريقيّة للأندلسيّين، والتأثيرات الآسيويّة في كينونتهم، وذلك ليعزِّز ثقة الشعب الأندلسي بإمكانيّاته وقدرته على الإبداع، مُنتفِضاً على المظالِم التي يتعرّض لها الفلّاحون والعمّال المياومون، الذين هُم وفق وثائق جمَعَها، بقايا السلالات الموريسكيّة الأصيلة، التي كان أجدادها سادة الدنيا في مجالات الحياة كافّة، وبنوا حضارة عظيمة، من عناوينها الكبرى، الحريّة والتسامح الديني والإبداع في مختلف المجالات.

في أندلس المَزارِع الكبرى، حيث وفدَ أجدادهم من الشمال وقد مُنحوا امتيازات كبيرة لاستغلال الأراضي المُصادَرة من مالكيها، والتي صاروا عمّالاً فيها، كان أولئك الفلّاحون قد نسوا تاريخهم، ويعتقدون أنّهم منذ الأبد، يحتلّون أسفل السلّم الاجتماعي في قشتالة.

حقيقة الأندلس وتاريخها

كان أولئك الفلّاحون الفقراء والمُهمَّشون يمثّلون كنه الأندلس الحقيقي وثقافتها الحقيقيّة، وكان ينبغي وصل الصلة بينهم وبين تاريخهم المجيد، ليتجدّدوا ويُدهِشوا بعطاءاتهم الإنسانيّة والثقافيّة العالَمَ، وقد تحرَّر حاملوها في وعيهم من أغلال البؤس والاستغلال، فعندما “يعرف كلّ الأندلسيّين حقيقة تاريخهم وكنههم سنتوصّل الى امتلاك القدرة الضروريّة لنطالب باحترام شخصيّتنا المختلفة كثيراً عن تلك التي يحاولون فرضها علينا”.

حقيقة هذا التاريخ هي أنّهم أبناء آخر حضارة حرّة في الأندلس، بلغت أوجها في زمن الخلافة حيث كانت قرطبة عاصمة الدنيا رقيّاً وتعايشاً دينيّاً فريداً، ومركز الفكر الأندلسي الذي نشرته في ثمانين جامعة ومَكتبة عظيمة لا مثيل لها في “إسبانيا الحاليّة”، وأَغدقت بنبل عطاء فكرها على أوروبا في بداية نهضتها.

كلّ هذا التقدّم الرائع تحقَّق في مراحل من حريّة ينبغي الاستفادة منها، لينساب مجدّداً نهر النبوغ، وتتفجّر طاقات قوى اجتماعيّة وثقافيّة، ويُبعث الأندلسي رجلَ نورٍ كما كان قديماً، قادراً على إيجاد مركزٍ ثقافيّ مثل ترتيسوس (4500 ق.م)، ويغرق بالتالي العالَم الغربي بعِلم الأندلس.

لم يبدأ تاريخ الأندلس إذن مع غزو قشتالة لها؛ فترتيسوس اخترعت البرونز وأَتقنت الملاحة، وهَيمنت ثقافيّاً وتجاريّاً على شعوب المتوسّط كالفينيقيّين والكريتيّين. وحضارة لابيتيكا الرومانيّة كانت مثالاً للازدهار، والأندلسس الإسلاميّة حقَّقت من خلال إنسانها الحرّ عظمتها الحضاريّة التي صار كنهها هو الأقوى تأثيراً في نهرٍ ثقافي ديماسي، ينساب من ترتيسوس باتّجاهها مُتجاوزاً حدود المكان والزمان ليصل إلى زمنه المعاش، ويروي الذاكرة الفرديّة والجماعيّة لأحفاد السلالات الموريسكيّة التي انضمَّت إلى مسيرة دفاعه عن وجود الأندلس في بانوراما التاؤريخ الإسباني: ما زالت الأندلس كما قال أحدهم “مثل بيوتها، متواضعة في الظاهر، وذات فناءات، وحدائق تتوسّطها البِرك، أي بساطة في المظهر الخارجي وإشراق في الأعماق”.

ونشير هنا إلى أنّ رؤية إينفانتي لحضارة الأندلس ودَورها الثقافي، وكما يوضح باكو دوبلاس، هي صدى لتأثّره بالفيلسوف كارل كراوس الداعي إلى مثلٍ أعلى إنساني يُحقَّق في دولة اتحاديّة عالَميّة، وإلى منهج فلسفيّ يعتبر الفكرة أساس الكينونة والمَعرفة، ويميل إلى إنكار العالَم الخارجي وتقبّله كتعبير عن فكرة.

وكمفكّرين أندلسيّين مُعاصرين له، مثل خوزيه إيزكييردو، وخواكين غيشو وابنه أليخندرو، وإيزودورو كاغيخاس، تأثَّر إينفانتي بمفهوم هيغل للتاريخ وكنهه، أي بهذه الفلسفة المثاليّة الواردة من ألمانيا، والتي تَعتبر أنّ التاريخ هو تحقيق لفكرة وأنّ ماهيّته لا تفنى، بحيث تمتلئ كِتاباتهم جميعاً بذكر الكنهيّة واللّازمنيّة.

مسيرة تتقدّم في الطريق

من الواضح أنّ المجال يضيق على التعريف بكلّ أحداث مسيرة رجل تاريخي مثل إينفانتي وغناها. المسيرة التي استمرّت حوالى ربع قرن، وناضل خلالها صاحبها في أجواء عدائيّة للغاية، كاتباً وسياسيّاً ترشَّح ستّ مرّات إلى الانتخابات البرلمانيّة، مُتحالِفاً مع أحزاب يساريّة. لكنّ مسيرته ظلّت تتقدّم في الطريق، وكادت من خلال نضالٍ جماهيري ومؤتمرات شعبيّة حاشدة، أن تُحقِّق هدفها في بعْث “الأندلس” التي تحكم ذاتها بذاتها في إسبانيا فيديراليّة. فقد عُقِد في إشبيليّة في الخامس من تمّوز (يوليو) من العام 1936 مؤتمر التصميم الأوّلي للقانون الأساسي للأندلس، وحُدِّد يوم آخر أحد من أيلول (سبتمبر) موعداً لإقراره. لكنّ اندلاع الحرب الاهليّة في الثامن عشر من تمّوز (يوليو) وضعَ بمأسويّة حدّاً للمسيرة. ففي الثاني من آب (أغسطس) اعتقلَ الفاشيست أحمد بلاس إينفانتي وقتلوه رمياً بالرصاص، ولم يُعرف أين دُفن.

انتصر الوطنيّون بقيادة فرانكو، وألغت الديكتاتوريّة ذكرَ إينفانتي ومشروعه الأندلسي، لكنّ إسبانيا الملكيّة تصالحت مع تاريخها الإسلامي في نظام الملكيّة الدستوريّة، وتحقَّق ذلك في عهد الملك خوان كارلوس الأوّل، الذي أُطلقت فيه حريّة التعبير والحريّة الدينيّة، ومُنحت المُقاطعات حُكمها الذاتي مع ارتباطها بالحُكم المركزي في مدريد، واعترفَ البرلمان الأندلسي، في فعل عدالة تاريخيّة، بأحمد بلاس إينفانتي أباً للوطن الأندلسي، وذلك للدور الحاسِم الذي لعبه في قضيّة الدفاع عن وجود الأندلس الذي كان مغيَّباً طوال أربعة قرون.

حاليّاً استرجعت الأندلس ذاتها، وصدرت مئات الكُتب والدراسات عن تاريخها الإسلامي المجيد. وكان كِتاب “قرطبة جوهرة العالَم” أوّل كِتاب اشترته الملكة صوفيا لدى زيارتها مؤخّراً أحد مَعارض الكِتاب في مدريد.