الـHiking والتفكُّر الفلسفيّ في ألمانيا

الـHiking والتفكُّر الفلسفيّ في ألمانيا
Spread the love

معمّر عطوي _ كاتب عربي مُقيم في ألمانيا/

يبدو أنّ هناك علاقة جدليّة بين رياضة المشي وطُرُق التفكير، حيث تؤسِّس دروب التجوال في الطبيعة لنشوء أفكار جديدة أو تمحيص أفكار قديمة في مناخٍ من الهدوء الفلسفيّ، في حين يصف البعض هذه الرياضة بأنّها رمزٌ لحريّة الإنسان. هذا الكلام ليس تنظيراً أو شِعراً، بل هو حصيلة دراسة مُستفيضة قامت بها مجلّة “فلسفة” الألمانيّة مُستندةً إلى أقوال وتجارب مجموعة من الفلاسفة والكُتّاب، حول أهميّة رياضة المشي في الغابات والجبال وحتّى في شوارع المدينة. وأَصدرت المجلّة الشهريّة عدداً خاصّاً بعنوان “Wandern” أي “تجوال” بالعربيّة، و”Hiking” بالإنكليزيّة، و “Randonnée” بالفرنسيّة. ولأنّ العقل السليم في الجسم السليم، فإنّ المشي يؤسِّس لصحّة سليمة ويُسهِم بالتالي في خلق الإبداع.

تبدأ قصّة الفلسفة مع المشي منذ الفيلسوف الإغريقي أرسطو مؤسِّس المدرسة المشائيّة في أثينا، والذي كان يلقي مُحاضراته في مدرسة اللّوقيّين وهو يطوف في الرّواق مع تلاميذه. فعلاقة الإنسان بالطبيعة والكَون يتناولها الفيلسوف الألماني كورت بايرتز، الذي أوضح لـلمجلّة، فكرة كلّ من أفلاطون وأرسطو بأنّ “الإنسان مُستقيم على وجه التحديد لأنّه مُصرٌّ على التفكير”. ويشير إلى أنّه في القديم، كانت النجوم والكَواكب كائنات إلهيّة تتميّز أيضاً بالتفكير، مُستنتِجاً أنّ لهذا السبب يرتبط الإنسان بالأجرام السماويّة وبالتالي يجب أن يكون مُستقيماً، لأنّ أهمّ أعضائه وأغلاها هي الرأس، ويجب توجيه ذلك أيضاً نحو الأجرام السماويّة، مُعتبِراً أنّ المشي هو رمز لحريّة الإنسان.

قد تصبّ جميع كِتابات الفلاسفة والعُلماء المُختصّين بالدماغ حول أهميّة رياضة المشي في وضع فكرة أساسيّة مَفادها أنّ مَن يمشي يرى أكثر، يعيش أطول، ويفكِّر بشكلٍ أفضل، سواء أكان مشياً أو تجوّلاً أو مُمارَسة روحيّة، يقدّر الكثير من الشعراء والمُفكّرين المشي اليومي للتوصُّل إلى أفكارٍ جديدة في الفلسفة والأدب.

دقّة كانط

الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 – 1804)، كان معروفاً بدقّته في المشي في وقتٍ مُعيَّن، اعتاد أهل قريته على رؤيته بانتظام خلاله. في مدينة كالينينغراد الروسيّة (اليوم) والتي كانت تُسمّى كونيشز بيرغ حين كانت ضمن الأراضي البروسيّة، اعتاد فيلسوف العقل مُمارَسة ما يسمّيه “طقوساً غير طقوسيّة”، يُغادر المنزل كلّ ليلة في تمام الساعة السابعة مساءً للحصول على بعض الهواء النقي وتليين ساقَيه. المَسار دائماً هو نفسه يقوده عبر الحدائق في مسقط رأسه، ثمّ صعوداً وهبوطاً في طريق شجرة الزيزفزن، حيث سمّي تيمُّناً به “مَسار الفيلسوف”، ولم يكُن يتخلَّف عن هذه الجولة إلّا حين يريد مُواكَبة أحداث الثورة الفرنسيّة. على المنوال ذاته تمّ سرد الحكاية وفق كِتاب “إميل” لروسّو بأنّ كانط كان مُلتزِماً بهذه العادة لدرجة أنّه نسيَ ارتداء حذائه قبل مُغادَرة منزله.

درب نيتشه

بالنسبة إلى الفيلسوف فريدريش نيتشه (1844 – 1900)، حين أصبحت حالته الصحيّة سيّئة، عاش مُتقاعداً في الجبال، حيث للهواء تأثيره الجيّد على الصحّة. كان يفضّل الذهاب في نزهة على مُنحدراتٍ جبليّة في جبال الألب السويسريّة (بخاصّة في منطقة Engadine)، وكذلك في جنوب شرق فرنسا (في بلدة Èze الصغيرة، التّابعة لمُقاطَعة Alpes-Maritimes)، ولا يزال هذا الدرب يُسمّى بدرب نيتشه حتّى اليوم، Chemin de Nietzsch.

كان نيتشه يمشي لمسافاتٍ طويلة على اعتبار ذلك “قوّة تحوّليّة: مَن يمشي على قدمَيه، يجلب التوتّر إلى الجسد والعقل.. بهذه الطريقة فقط يُمكن للإنسان أن يُناضل من أجل نفسه والعالَم”. يذكر نيتشه في كِتابه “Ecce homo” أنّ فكرة العودة الأبديّة جاءت إليه خلال تنزّهه على ضفاف بحيرة سيلفابلانا. ويضيف: “عاداتنا هي التفكير في الهواء الطلق، والمشي، والقفز، والتسلّق، والرقص. ويُفضَّل أن أقوم بذلك وحيداً في الجبال القريبة من البحر، حيث تصبح الطُّرق أكثر عمقاً في التفكير” (من كِتابه “العِلم المَرِح”). نيتشه كتبَ مقالةً عن المُتجوِّل، ويصفه بأنّه أيّ شخص وصل إلى حدٍّ معقول من حريّة العقل، بحيث لا يُمكن أن يشعر خلاف ذلك على الأرض. من الواضح أنّ شخصيّة زرادشت، الرجل المتجوّل في بلدانٍ غريبة، هي شخصيّة نيتشه نفسه. لكنّه يريد أن يُراقب ويُبقي عينَيه مفتوحتَين على كلّ ما يجري في العالَم.

التجوال الحَضريّ

على خلاف آخرين أحبّوا الطبيعة، عشقَ الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين (1892- 1940) المشي في مُدن أوروبا، مثل نابولي، باريس وحتّى موسكو. كان يشعر بالسعادة حين ينسى نفسه في مَعمَعة الحضارة. ينقل العدد الخاصّ من “فلسفة” عنه وَلَعَه بشكلٍ خاصّ بالزقاق الباريسيّة، وصالات التسوُّق المُغطّاة كرمزٍ لروح الرأسماليّة. تظهر البضاعة مثل أحلام متخيَّلة بالنسبة إليه. يصف شعوره هنا قائلاً “أن تضيع في مدينة ما، كمَن يضيع في غابة، يحتاج إلى تدريب. ينبغي تذكُّر أسماء الشوارع لدى ضلال الطريق. لقد تعلّمتُ هذا الفنّ في وقتٍ متأخّر. لقد حقَّقتُ حُلماً بأن كانت أوّل آثار المَتاهات موجودة في الصفحات الأكثر وضوحاً في دفاتر ملاحظاتي” (مِن كِتاب طفولة برلين في القرن التاسع عشر).

من جهته أيضاً، كان لمارتن هايدغر (1889 – 1976) وجهة نظره حول التجوال في الغابات وعلاقتها في خطّ فلسفة معيّنة. ربّما أوضحَ فيلسوف الوجوديّة في كِتابه “طُرُق الغابة”، في العام 1950 بأنّ الخشب اسم قديم للغابة. في الغابة ثمّة طُرق تنمو عادةً بشكلٍ مُفاجئ ولا تخلو من الأغصان والأشواك والأعشاب. هي طُرق ضيّقة ولا تؤدّي إلى جهة بل تصطدم بعوائق طبيعيّة تشكِّل نهاياتها، يُطلق عليها اسم Holzwege. يقول هايدغر عن هذه الطُّرق “كلّ واحد منّا يتبع طريقه الخاصّ، في الغابة نفسها. وغالباً ما تبدو الواحدة من هذه الطُّرق شبيهة بالطُّرق الأخرى. غير أنّ هذا لا وجود له إلّا في الظاهر. فالحطّابون وصائدو الطرائد يعرفون بدقّة دروبهم وسط تلك الأكوام. هُم يعرفون ما معنى أن يكون المرء قد سلكَ واحداً من تلك الدروب التي لا تؤدّي إلى أيّ مكان”.

جسور نيشيدا

الفيلسوف الياباني نيشيدا كيتارو (1870 – 1945) كان يتنزّه يوميّاً على “طريق الفيلسوف” في كيوتو وهو مَعلمٌ سياحيّ شهير. يبلغ طول ممرّ المُشاة هذا كيلومترَين ويقود الزائر إلى بعض المَعابد الأكثر شهرة في المدينة. وتَعبر العديد من الجسور هذا المَسار. صاحب مدرسة كيودو الفلسفيّة، يستوحي من هذه الشبكة الطبيعيّة بناء جسر بين البوذيّة والمَدارس الفكريّة الغربيّة، مثل الفلسفة الظاهراتيّة. بهذه الذهنيّة طوَّر مفهوم “اليقظة الذاتيّة” الذي يُرافِق التغلُّب على الوعي الفردي.

العُلماء أيضاً لهُم فلسفتهم في المشي، فبعد هربه من ألمانيا إبّان الحُكم النازي في العام 1933، حصل الفيزيائي ألبرت أينشتاين على وظيفة في برينستون في الولايات المتّحدة. كانت المسافة من منزله في شارع ميرسر إلى مَكتبه في معهد الدراسات المتقدّمة مسافة كيلومتر ونصف، وكان آينشتاين يمشي على هذا الطريق بمفرده سيراً على الأقدام. بعد ذلك أصبح ينضمّ إليه في هذه الرحلة اليوميّة عالِم الرياضيّات كورت غوديل.

هيغل والخَوف

ثمّة آراء كثيرة وقصص مُثيرة حول هذا الموضوع لا تتّسع عُجالة كهذه لاحتوائها، لذلك قد يكون من المُفيد التوقّف مع تجربة الفيلسوف فريدريش هيغل (1770 – 1831)، الذي عمل من العام 1793 إلى 1796 كمُدرِّس خاصّ في العاصمة السويسريّة برن، حيث كتبَ تقريراً حول تجواله اليومي، ضاعت مخطوطته. بيد أنّ قصّة حياة هيغل التي كَتبها كارل روزنكرانز في Biogrfie، تضمَّنت بعض مُغامرات الأخير في الجبال، حيث يروي عن رحلة حصلت في صيف العام 1796 قام بها هيغل لمدّة أربعة عشر يوماً عبر جبال الألب الشرقيّة في برن مع ثلاثة مُدرّسين آخرين من ولاية سكسونيا. يروي المؤلِّف أنّ صاحب “فينومينولوجيا الروح” لم يكُن من هواة المشي في الطبيعة على الرّغم من أنّها كانت عادةً سائدة في ذلك الوقت وسط الشباب. هو أجبر نفسه على السير مع أصدقائه على هذا المستوى من المُرتفعات من دون أن يشعر بالنشوة.

لكنّه يعترف، في وقتٍ لاحق، أنّ هذه الانعكاسات المُتضارِبة التي تحيط به قد بدأت بالفعل في عمليّة إدراكيّة صامتة، تزوّده بنظرة ثاقبة تُصبح مُقنِعة لدرجة تحوُّلها إلى “قوّة دافِعة” لفلسفته. الطبيعة من فوق لها مظهر مختلف تماماً بالنسبة إلى المُقيم في المناطق السهليّة المُسطّحة. لكنّ ضيق الأودية شيء يخيفه. إنّه يتوق دائماً إلى التوسُّع. لذلك لم يكُن العالَم الجبليّ جيّداً بما فيه الكفاية: “الجبال تقف هناك في كتلتها الحجريّة، فهي تحجب السماء، وأيضاً سماء الروح”. لكن عندما ينتهي الارتفاع، يكون هيغل سعيداً. وبعد العديد من البثور التي ظهرت على قدمَيه، أَدرك الرجل أنّه ليس من مُحبّي الطبيعة ولم يُخلَق للجبال. بيد أنّ النقطة الأهمّ، هي أنّ “الروح المُطلَقة” تحتاج إلى حريّة تجعلها تطير فوق الجبال وكلّ العقبات الأخرى. نعم، العقل نفسه هو تلك الحريّة، إنّه بحاجة إلى الحركة متخطّياً العوائق.