التحدّي الأكبر للرئيس التونسيّ

التحدّي الأكبر للرئيس التونسيّ
Spread the love

د. محمود الذوّادي _ عالِم اجتماع من تونس/

يبدو من السلوك اللّغوي بفصيح اللّسان العربيّ الذي يتبنّاه الرئيس قيس سعيّد أنّ الرجل هو أكثر رؤساء تونس تحمّساً للّغة العربيّة الفصحى واستعمالاً لها في حديثه العاديّ. وهي ظاهرة لافتة للأنظار بكلّ المقاييس في المجتمع التونسيّ. وعلى الرّغم من ذلك، لا يكاد يوجد ذِكرٌ حتّى لمُحاولات في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعيّ لتفسير الظاهرة، كما لا نعثر على تعليقات حول مدى تأثير حديث الرئيس بالعربيّة الفصحى إيجابيّاً على موقف التونسيّات والتونسيّين من لغتهم الوطنيّة وزيادة استعمالهم لها في الكتابة والحديث.

تفيد دراساتنا للسلوك اللّغوي التونسي أنّ أكثر المتعلّمات والمتعلّمين تعاطُفاً وتحمّساً لاستعمال العربيّة الفصحى أو العاميّة العربيّة التونسيّة النقيّة هُم خرّيجو التعليم الزيتوني وشعبة (أ) المعرّبة في مطلع الاستقلال ومُدرّسو اللّغة العربيّة وآدابها. تُشير مُعطيات السيّد الرئيس أنّه لا ينتمي إلى أيٍّ من تلك الأصناف الثلاثة من التونسيّين. ومنه، فلا بدّ أنّ هناك عوامل وظروفاً خاصّة وشخصيّة تُفسِّر السلوك اللّغوي الغريب للسيّد الرئيس. فالسعي لمعرفة سبب/أسباب الظاهرة أمرٌ مشروع للغاية علميّاً ووطنيّاً.

تشوّق العربيّة لقرارٍ رئاسيّ

بغضّ النّظر عن سبب/أسباب مُسانَدة الرئيس للّغة العربيّة، فهي تنتظر منه في عهده الشيء الكثير كي يكسب التونسيّات والتونسيّون ومجتمعهم رهان العلاقة السليمة/الطبيعيّة مع اللّغة العربيّة/الوطنيّة. وكبداية للإصلاح اللّغوي وتوطين اللّغة العربيّة في التراب التونسي، نقترح على السيّد الرئيس تطبيق القانون التونسي بخصوص كتابة اللّافتات في الفضاء التونسي العامّ. يَذكر هذا القانون أنّ اللّافتات يجب أوّلاً أن تكون مكتوبة بحروفٍ عربيّة غليظة؛ ثانياً يجب أن تُكتب اللّافتات بلغاتٍ أجنبيّة – إن لزم الأمر- بحروفٍ صغيرة تحت الحروف العربيّة. وهو قانون لا تلتزم به أغلب البلديّات في قرى البلاد التونسيّة ومُدنها. وكرجلِ قانونٍ ومُنادٍ بالالتزام بتطبيقه من دون تردّد، فإنّ السيّد الرئيس مُطالَب، بقوّة مشروعيّة العمل بالقانون، بتطبيق قانون كتابة اللّافتات في المجتمع التونسي. تلك هي أبسط الأشياء لكسب رهان السيادة والاستقلال الحقيقي للوطن وحمايته. يرى فلاسفة وعُلماء اللّغة أنّ الشعوب الفاقدة للُغاتها عاجزة أن تكون/تكوّن أُمماً. ويُجمع المفكّرون على أنّ لغة القوم هي أقوى حامٍ لهم ولحدودهم من الغابات والجبال والأنهار والبحار والمُحيطات.

قانون استعمال اللّغة وطبيعة العلاقة معها

خلصت بحوثنا اللّغويّة إلى أنّ طبيعة علاقات الناس مع اللّغات تتأثّر كثيراً بمدى استعمالهم لها. ينطبق هذا على لُغات الأمّ واللّغات الأجنبيّة. فعلاقات الناس الحميمة مع لغات الأمّ أو الوطنيّة هي نتيجة لما يجوز تسميته بقانون الاستعمال المكثّف لتلك اللّغات ابتداءً من الصغر حتّى الكبر. يفسِّر هذا القانون أيضاً علاقات الناس باللّغات الأجنبيّة حيث تكون هذه الأخيرة، مثلاً، لغات التدريس في معظم أو كلّ مراحل التعليم للتلاميذ والطلبة الذين لا يستعملون في الغالب أبداً أو قليلاً لغاتهم الوطنيّة في التدريس في بعض أو كلّ تلك المَراحل الدراسيّة، كما هو الحال في نظام التعليم في تونس قبل الثورة وبعدها.

مفهوم الوطنيّة اللّغويّة

نطرح هنا مصطلح الوطنيّة اللّغويّة كمفهومٍ جديد مثل مفهومَي الآخرين (التخلّف الآخر والازدواجيّة اللّغويّة الأمّارة) في دراساتي للمسألة اللّغويّة في المجتمع التونسي. ويعني هذا المفهوم عندنا أنّ المجتمع وأفراده يتّصفون بالوطنيّة اللّغويّة الكاملة متى كانت اللّغة الوطنيّة تحتلّ المكانة الأولى في قلوب المُواطنين وفي السمعة الاجتماعيّة في مجتمعها وفي الاستعمال اليومي فيه لدى الأفراد وفي الأسرة وفي المجتمع الكبير وكلّ مؤسّساته. فهذا السلوك الوطني مع لغة البلاد يجعل علاقتها مع لغتها علاقة طبيعيّة/سويّة. وهذا ما نجده، مثلاً، سائداً اليوم في المُجتمعات المتقدّمة على الخصوص.

مَواقِف المُجتمعات نحو لغاتها الوطنيّة

تفيد المُلاحظات الميدانيّة اليوم في المُجتمعات المتقدّمة بالتحديد بأنّ لغاتها الرسميّة/الوطنيّة تتمتّع عموماً بالمُواصفات الرئيسة التالية:

1- الاستعمال الكامل لها على المستويَين الشفويّ والكتابيّ.

2- الاحترام لها والاعتزاز بها والغيرة عليها والتحمُّس للدفاع عنها.

3- مُعارَضة استعمال لغة أجنبيّة بين مُواطني تلك المُجتمعات.

4- شعور عفويّ قويّ لدى المُواطنين بالأولويّة الكبرى التي يجب أن تنفرد بها اللّغة الوطنيّة في الاستعمال في مُجتمعاتهم.

5- إحساس قويّ ومُراقَبة واسعة لدى المُواطنين لتحاشي استعمال الكلمات الأجنبيّة وسياسات وطنيّة متواصلة من طرف أصحاب السلطة لترجمة المُصطلحات والكلمات الأجنبيّة الجديدة إلى اللّغة الوطنيّة.

6- تمثّل اللّغة الوطنيّة العنصر الأبرز لتحديد هويّات الأفراد والجماعات في المُجتمعات المُختلفة، ويتجلّى ذلك أكثر في عصرنا الحديث في المُجتمعات المتقدّمة أو تلك التي لم تتعرَّض إلى الهَيمنة الاستعماريّة بوجهَيها التقليدي المباشر أو الجديد غير المباشر.

تشخيص علاقة التونسيّة/التونسيّ باللّغة العربيّة

إذا تبنّينا تلك المؤشّرات الستّة لقياس مَوقف التونسيّين اليوم إزاء اللّغة العربيّة (لغتهم الوطنيّة)، لوجدنا أنّ مَوقفهم العامّ ضعيف على كلّ واحد من هذه المؤشّرات. نكتفي هنا بالحديث عن البعض منها فقط لصالح الشفافيّة في الطرح:

1- فعلى المستوى الشفويّ، يمزج التونسيّات والتونسيّون كثيراً حديثهم بكلماتٍ وجُمل وعبارات فرنسيّة حتّى أنّه يصحّ وصف اللّهجة التونسيّة بأنّها لا تكاد تكون سوى مزْجٍ للعربيّة بالفرنسيّة أي “الفرونكــوأراب” le franco-arabe في أغلب الأحيان. يلاحظ بهذا الصدد أنّ النساء أكثر انجذاباً للمزْج اللّغوي من الرجال. ومن ثمّ، فتأثيرهنّ على ضُعف الوطنيّة اللّغويّة يُنتظر أن يكون أكبر من تأثير الرجال، إذ إنهنّ أمّهات الأجيال التونسيّة في الحاضر والمُستقبل. وربّما يجوز القول إنّ أغلبيّة التونسيّات والتونسيّين اليوم يستعملون كلمة فرنسيّة في كلّ عشر كلمات (10/1) من حديثهم بالعاميّة التونسيّة مع المُواطنين التونسيّين. وبتعبير العلوم الاجتماعيّة، فإنّ “الفرونكوأراب” كسلوكٍ لغويّ شائع في المجتمع التونسي الحديث تمثـِّل المعيـار اللّغـوي الاجتماعـي، بحيث يُنظَر، لاشعوريّاً، إلى حديث التونسيّة/التونسي مع التونسيّين بلهجة تونسيّة عربيّة خالية تماماً من أيّ كلمة فرنسيّة من طرفهم على أنّه ضـرب من السلوك اللّغـوي المُنحـرف، الذي طالما يُقابَل بالتعجّب والحيرة وحتّى بالتهكّم والسخرية.

أمّا استعمال اللّغة العربيّة على مستوى الكتابة في المجتمع التونسي، فهو لا يزال محدوداً في الأمور الكبيرة والصغيرة على حدّ سواء. فمُعظم التونسيّين يكتبون، مثلاً، صكوكهم المصرفيّة (شيكاتهم) باللّغة الفرنسيّة ويقومون أيضاً بكتابة إمضاءاتهم في الغالب بها. واللّغة العربيّة غائبة عموماً في العديد من المؤسّسات التونسيّة الحديثة. فاللّغة الفرنسيّة هي لغة العلوم في المؤسّسات التعليميّة التونسيّة ابتداءً من مرحلة التعليم الثانوي وانتهاءً بمرحلة الدراسات الجامعيّة العليا. كما أنّ اللّغة الفرنسيّة تبقى لغة الكتابة لأنشطة جلّ البنوك التونسيّة.

2- تشير الاستبيانات اليوم، والمُلاحظات الميدانيّة المتكرّرة للسلوكيّات اللّغويّة للمتعلّمات والمتعلّمين التونسيّين، إلى أنّ أغلبيّتهم الساحقة لا تكاد تُبدي بعفويّة وارتياح حماساً واعتزازاً باللّغة العربيّة باعتبارها لغتهم الوطنيّة. يُلاحظ الباحث اليوم بطريقة متكرّرة نموذجاً سلوكيّاً لردّ فعل أغلبيّة التونسيّات والتونسيّين على مَن يُدافِع منهم عن استعمال اللّغة العربيّة في المجتمع التونسي. يتمثّل ردّ الفعل الجماعي النموذجي لديهم في مُساءلته: “هل أنتَ أستاذ عربيّة أو هل أنّك لا تعرف الفرنسيّة؟ “؛ فتأويل عالِم النفس الاجتماعي لذلك السلوك الجماعي النموذجي التونسي يفيد بشيئَين اثنَين على الأقلّ: أوّلاً: اعتقاد أغلبيّة التونسيّات والتونسيّين أنّ مدرِّس اللّغة العربيّة هو وحده الذي يُنتظر منه الدّفاع عن اللّغة العربيّة. وأمّا غيره، وهُم أغلبيّة التونسيّات والتونسيّين، فهُم غير مُطالَبين بالدّفاع عن العربيّة، لغتهم الوطنيّة. ثانياً: إنّ ضُعف تحمّسهم للدفاع عن اللّغة العربيّة تفسّره ما نسمّيها “الثنائيّة اللّغويّة الأمّارة” التي تجعلهم يميلون ويرغبون شعوريّاً ولاشعوريّاً في استعمال الفرنسيّة بدل العربيّة. فالمُلاحظات الميدانيّة تفيد بأنّ أجيال المتعلّمات والمتعلّمين التونسيّين الثنائيّة اللّغة والثقافة لفترتَي الاستعمار والاستقلال هي عموماً أجيال فاقدة لمَوقف الاعتزاز والحماس والشعور بالغيرة للدفاع بعفويّة وقوّة عن اللّغة العربيّة. وهذا ما نسمّيه ضعف التعريب النفسي لدى معظم التونسيّات والتونسيّين المتعلّمين والمثقّفين على الخصوص.

3- لا يُعارض وبالتالي لا يحظر المتعلّمات والمتعلّمون التونسيّون اليوم على أنفسهم استعمال اللّغة الفرنسيّة بينهم في الشؤون الصغيرة والكبيرة التي يقومون بها في مُجتمعهم، بل نجد الكثير منهم يرغبون بذلك ويفتخرون به.

4- أمّا هاجــس مُراقَبـة النَّفس لتجنُّب استعمال الكلمات الأجنبيّة فهو أمرٌ مفقود عموماً عند المتعلّمات و المتعلّمين التونسيّين. ولعلّ ازدياد انتشار ظاهرة “الفرونكوأراب” بين الشباب ولدى الكهول اليوم هو دليل على ضعف وعيهم بأهميّة مفهوم الوطنيّة اللّغويّة.

كما رأينا، يسهل تفسير ضُعف الوطنيّة اللّغويّة التونسيّة بأنظمة التعليم الثنائيّة اللّغة والثقافة أو المُفرنَسة التي عرفها/يعرفها عهدا الاحتلال والاستقلال كما يتجلّى ذلك في التعليم الصادقي والتعليم التونسي ما بعد الاستقلال وفي نظام التعليم المُفرنَس قبل الاستقلال وبعده. وفي المقابل، يجد المرء وطنيّة لغويّة قويّة لصالح اللّغة العربيّة عند خرّيجي شعبة (أ) المعرّبة في مطلع الاستقلال وكذلك لدى خرّيجي التعليم الزيتوني القديم. فالعامل الحاسِم في هذا الفرق هو نوعيّة الثنائيّة اللّغويّة (الأمّارة أو اللّوّامة). فالأولى تمثّل استمرار الاستعمار اللّغوي الثقافي في نفوس التونسيّات والتونسيّين وعقولهم. أمّا الثانية فهي ثنائيّة لغويّة تمنح صاحبتها/صاحبها المناعة اللّغويّة الوطنيّة مع التفتّح على لغاتٍ وثقافات الآخرين كما تفعل المُجتمعات المتقدّمة ذات السيادة اللغويّة والثقافيّة. إذن، فالثورة مشروعة على النظام التربوي الحاضر لكي نؤسِّس نظاماً تعليميّاً يجعل الأجيال التونسيّة اليوم وغداً صاحبة علاقة طبيعيّة كاملة مع اللّغة العربيّة: لُغتها الوطنيّة.