الحارس الصغير

الحارس الصغير
Spread the love

بقلم: د.طارق عبود/

كان الربيع يتهيأ للقدوم. بعد شهرين ونصف أتمّ الثامنة من عمري..الشمس تسدل ستارها الأرجواني على المكان، وصوت عبد الباسط يرتل آياتٍ من سورة الفرقان، أمي على وشك الانتهاء من الجولة الأخيرة من مسح بلاط الغرفة.وكنا نتهيأ للسهرة الأولى في بيتنا الجديد في الضيعة،بعد سنتين من المعاناة،كان جدي يستضيفنا في داره الصغيرة،بعد هروبنا من بيروت بسبب بداية الحرب الأهلية..
جلسنا على أرض الغرفة كفرقة صوفية تنتظر بداية الطقوس، على حصير من القش العاجي، يزيّن المكان، وبعض فرش من الاسفنج الرقيقة ترتاح في زوايا الغرفة الجديدة.
ثمة رائحة عجيبة، جميلة تنبعث من المكان. هي رائحة الحي الجديد..
الليمون بدأ يبعث رسائل الحب المعطّرة ..
أسترق النظر من فتحة الباب الأحمر الحديدي الصغير المفتوح. ثمة مراهقون يتسامرون في آخر الحي ، وثمة ضوء صغير يخرج من بيت الجيران الجدد، يكسر ظلمة الشارع الثقيلة..
أبي يتفقّد محيط البيت،أمي مشغولة بتجهيز ما تيسّر للعشاء.
نحن مأخوذون برائحة الطلاء،نجيل أنظارنا في أرجاء الغرفة الصغيرة،غير مصدقين أنّ هذا بيتنا الجديد.
هدوء جميل،يخترقه صوت ضفدع من بركة جارنا أبي رفيق، يضفي حيوية على المكان،ويدعونا إلى سهرة سمر…
. بعد لحظات استيقظت على صوت بلبل يشدو على اللوزة خلف البيت، وعصافير الدوري لا تستريح في مكان، تنتقل من شجرة إلى أخرى، مشغولة ببناء أعشاشها الجديدة. كانت الساعة تشير إلى وقت ما، فليس هناك من ساعة لا على الحائط، ولا في اليد، وحقيقة لم نكن بحاجة إلى معرفة الوقت، اليوم يوم عطلة في المدرسة، وبيت جديد، وفرشة إسفنجية بغطاء مزركش، ومسند قاس من القش المضغوط يفصل بين الوسادة والحائط. وضعت يديّ وراء رأسي كما كان يفعل محمود ياسين عندما يستيقظ في الأفلام. شعرتُ حينها أنّني أحد رواد قصر باكنغهام.
كانت أمي كريمة معنا، فلم ترد أن تفسد فرحتنا بالبيت الجديد، تركتنا نترك الفرش على راحتنا هذا اليوم. بعد دقائق معدودات، وبعدما استفزني صوت العصافير النشيطة العاملة، نهضت عن الفرشة الملونة، واتجهتُ نحو الحديقة-الحاكورة-متفقدًا المكان الجديد. وجدتُ نفسي أمام لوحة عظيمة، شجرات التين تحرس حدود الأرض، لوزتان اثنتان ترتديان فستانًا أخضر بديعًا أزراره كثيرة، ولكنها متفلّتة من عرواتها تتدلى بغنج، مختبئة خلف وريقات عذارى غسّلها الندى،فأصبحت كعروس شهية..
كان ثمة محراث خشبي يمكث غير بعيد فوق تراب أحمر رطب يمنح الأرض قوة وجمالًا.. صرتُ أجول في الحديقة غير المزروعة كوكيل مسؤول عن بستان عظيم،أضع يديّ خلف ظهري أراقب المشهد البديع، ونسمة باردة لطيفة تدغدغ وجهي،والشمس تطل من وراء جبل الشيخ معلنة بداية نهار جديد..
قمتُ بجولة تفقدية في الحي، ثمة ملعب لكرة القدم كنا نعرفه، تغطيه بودرة بيضاء كتلك التي تستخدمها الأمهات لأطفالهن الرضّع، كنت أمشي وأنظر خلفي مبتهجًا بآثار أقدامي. كان الملعب كبيرًا جدًا، وكأنني أمام بحر من التراب الأبيض لا نهاية له، تعكس الشمس وهجها على الأرض،فترتد على عيني بقوة مضاعفة.
ثمة خيمة نصبها الشباب الكبار إلى جانب حائط المستوصف. وكانت قوارير الجلول الفارغة مكدسة في الصناديق الخشبية. المرمى كان خاليًا، والملعب كذلك، ولكنني منذ ذلك الصباح نصّبتُ نفسي حارسًا لهذا الملعب الأبيض الذي ارتبطتُ معه فيما بعد بعلاقة حب من طرفين لم تنتهِ إلى اليوم.
قبل أن يمر الأسبوع الأول في منزلنا الصغير والرائع، وفي هذا الحي الراقي والهادئ، سمعتُ صوتًا غريبًا قويًا،وضعت تلقائيًا يدي على أذني من شدة الصوت، كانت طائرتان حربيتان تخترقان سماء القرية. ومن شدة الخوف ركضتُ متوجهًا إلى بيتنا القريب، كانت أمي تفتش عني، جمعتنا في الغرفة الصغيرة وهدأت من روعنا، وإذا بلحظات، يصل ابي من الدكان،عائدًا في وقت مبكر. كانت علامات القلق باديةً على محياه، وقلما رأيتُ أبي يخاف. في عز الأزمات والحروب لاحقًا، كان صلبًا وعنيدًا وقويًا، ولكنه كان لا يحب كرة القدم.
عند الظهيرة اشتد القصف على القرى المجاورة، شاهدتُ جيراننا يروحون ويجيئون مرتبكين خائفين يسألون عن وسيلة نقل تقلهم إلى بيروت أو صيدا. الصهاينة قادمون لاجتياح الجنوب.
لم يكن قد مرّ على استشهاد أخي الأكبر أكثر من أحد عشر شهرًا، في مواجهة بطولية على تلة رب ثلاثين. حملت أمي صورة أخي وصرّة من الثياب، ووقفنا أمام الباب ننتظر أبي الذي ذهب إلى الساحة يفتش عن وسيلة نهرب فيها من القصف،ومن الاجتياح ومن الموت..بعد دقائق توقفت شاحنة طويلة في الشارع المقابل، نادى أبي علينا أن تعالوا، حشرنا أنفسنا مع أهالي الضيعة في الشاحنة. وكان حظ الشباب الأكبر سنًا رائعًا، إذا تربعوا على “رقبة” الشاحنة فوق السائق ومساعده. بعدما تأكد أبو حسين من أنّنا جاهزون، أقلع متوجهًا نحو صور، ومنها إلى صيدا فبيروت.
عندما أقلعت الشاحنة نظرتُ إلى بيتنا الجديد، فرأيته حزينًا مثل رجال القرية ونسائها، ودّعته بعينين دامعتين، واستودعته الرحمن.. وتركناه وحيدًا..وقلت له في قلبي أنني سأشتاق له كثيرًا..واتجهنا إلى العاصمة بيروت..