بيروت والحاجز الأخير

بيروت والحاجز الأخير
Spread the love

بقلم: د.طارق عبود /

الشاحنة تتراقص فوق الحفر، الركاب يتمايلون في رقصة جماعية حزينة، كأننا على متن سفينة مهاجرة تصارع الموج. الطيران الإسرائيلي يعربد في أجواء الجنوب،ويزيد المشهد خوفًا ورعبًا..بعد دقائق دوّى صوتٌ رهيب، شعرنا معه ان الشاحنة بمن فيها انتقلت الى أحد البساتين..كانت غارة على تلال قدموس القريبة. وُضعَ رجال القرية بين خيارين،إما ان نكمل السير تحت القصف نحو صيدا، أو نتراجع الى حيث الجحيم المستمر.. الكلمة الأخيرة كانت للسائق أبي حسين، كلما زاد سرعة الشاحنة كان  الأمل بالهروب والنجاة أكبر..الرجال على الأطراف كانوا يتشبثون بقضبان الصندوق الحديدي، الشباب على رقبة الشاحنة كفرقة استطلاع متقدمة،نحن نتمسك بثياب الرجال على الجانبين،النساء في الوسط،الأطفال الصغار يتوسدون أقدام الأمهات.كنتُ دائم النظر إلى الوجوه، كان الرجال يتفادون النظر الى بعضهم.. أبي كان دائم التطلع إلى الأمام، ويتفقد أحوالنا من حين إلى حين من بين غابة الأقدام. أمي تجلس على الصرّة، وتحتضن صورة أخي الشهيد.بين لحظات الرعب، كان ثمة شعور بالإلفة، فعندما يتوحد مصير مجموعة يصبح الخوف أقل.عبرنا “أبو الأسود”، رأينا حطام حاجز متناثر، وشجرًا متفحمًا،وشاحنات محروقة.. تابعنا السير تحت هدير الطائرات،كان همي أن أرى واحدة منها، التوت عظام رقبتي ولم أستطع،ليس  ذلك مهمًا الآن ،المهم أن نصل إلى صيدا…وصلنا إلى ساحة النجمة،كان الناس على الطرقات،وأصبحنا فرجةً للفضوليين،وكأننا أهل الكهف. الصحفيون يتراكضون للحصول على صورة لجنوبيين يتكدسون في شاحنة هربًا من الموت. توقفنا قليلًا،لم أعرف إلى الآن ما هو السبب، ثم أكملنا المسير.كانت الشمس تلامس الموج. عند الغروب،من دون خوف ولا طائرات، يسيطر حزنٌ على النفوس،فكيف الآن؟ تذكرتُ حينها أصدقائي الصغار ،حيدر مصطفى، عدنان،أمين، والآخرين، أين هم الآن يا ترى؟وفكّرتُ في كرة القدم المحشوة بالأوراق التي صنعناها قبل أيام، هل ما زال رفاقي في القرية،أم انهم وجدوا وسيلة نقل تقلّهم أيضًا الى مكان ما؟ والكرة أين تركوها؟وصلنا إلى الرميلة،كان ثمة حاجز لمسلحين، أشاروا إلينا بالعودة الى صيدا.. حصل تلاسن بينهم وبين بعض الشباب، وبعد جدال عنيف،أكملنا الرحلة إلى العاصمة. تراءت لي بيروت من بعيد، عروسًا تتلألأ بالأضواء..كنت أنظر إليها من بين قدمي أحد الرجال، وكنتُ مأخوذًا بهذا المنظر البديع..هذه المرة الأولى التي أعود فيها الى مسقط رأسي،بعد ثلاث سنوات من الهجرة الى الجنوب..  كنا محظوظين أن خالاتي وأخوالي كانوا بانتظارنا،فلم نذهب إلى مدرسة رسمية للمبيت.حين وصلنا الى “الغربية”، كانت النشرة المسائية على تلفزيون لبنان قد بدأت للتّو، صوت عرفات حجازي يتلو مراسم الهزيمة.. احتلت الشاشةَ صورُ نساء الجنوب الهاربات من القصف،يحملن أطفالهن على الأيدي..والبيوت المدمرة تفترش التراب، ودبابات الصهاينة الضخمة تتمايل بأغطيتها البرتقالية مختالة فوق التراب المقدّس..في صباح اليوم الثاني طلب والدي من أقاربنا أن نجد مكانًا يأوينا، فبيوت بيروت صغيرة،ونحن أسرة تتألف من تسعة أولاد إضافة إلى والدي ووالدتي.ذهبوا بنا صباحًا إلى قصرٍ كبير في القنطاري،كان قصرًا مهجورًا،وكان الشباب بدأوا يفتحون البيوت والأماكن الخالية.بدأت أمي وأخواتي بتنظيف المدخل الكبير،التراب الأحمر يملأ أخاديد البلاط، بعد جهد ملحوظ، اتخذنا غرفة في القصر الكبير. وعندما قرأت لاحقًا قصص أغاتا كريستي “جريمة في القصر” وغيرها، كان ذلك المكان في مخيلتي هو المسرح الدائم لشخصيات الكاتبة الإنكليزية الكبيرة وجرائمها.بعد يومين قرر والدي الانتقال الى مكان آخر، فهذا القصر موحش وكئيب،ونحن لدينا فائض من الكآبة والحزن..انتقلنا إلى أوتيل “باركلين”، بعدما فتحه الشباب عنوةً، كان شارع الحمرا ساحرًا بأنواره وشارعه العريض ومحلاته الأنيقة ومقاهيه الجميلة..كنت مأخوذًا بأنوار المصابيح التي كانت تنعكس على الغرفة،فتمنحها أناقةً وجمالًا. كان حسين ابن خالتي زينب يأتي كل مساء حاملًا معه، بطاطا مقلية يعلوها صباغ أرجواني،موضوعة في كرتونة مفتحة الأوراق كزهرة اللوتس.. ولا زلتُ الى اليوم أحبّ تلك البطاطا، وأحبُّ ابن خالتي حسين..كانت الغرف كبيرةً جدًا، وخالية من الأثاث، ثمة صندوق مقلّم حديدي أبيض يسند نفسه الى الجدار الى جانب الباب، لم أعرف ما هو.. وكان ثمة خزانة عالية  بيضاء في قلب الحائط.فتح أبي الخزانة، باحثًا عن بعض الفرش كي ننام عليها، وإذا بشيء غريب يقف في الزاوية،شيءٌ كبير كجثة إنسان مقتول ملفوف في كفن وجاهز للدفن، مربوط من أعلاه ووسطه وأسفله. بعد جدال وأخذٍ ورد، حسم أبي الموقف..طرح “الجثة” المجهولة على أرض الغرفة. وبدأ يفك الأربطة، وأمي ترجوه أن يترك هذا الأمر ،فمن الممكن أن تكون هناك جريمة غامضة في هذا الفندق الأنيق.كانت لحظات دراماتيكية مثيرة،لم يكن ينقص المشهد سوى موسيقى تصويرية من أحد أفلام ألفريد هيتشكوك،أو مسلسل عشرة عبيد صغار.. وقفتُ وراء أمي،أمسك بفستانها،وأسترق النظر الى الجثة الهامدة، امتدت تلك اللحظات الى شهور. أبي مصرٌّ على المتابعة،أخوتي وأخواتي مرعوبون،ولكنّ القرار اتُخذ، والاعتراض ممنوع.. حلّ أبي الرباط الأول،ثم الرباط الثاني، فانكشف شيء ما، بدأ الجميع بالصراخ، في محاولة للتأثير عليه للتراجع.لا أعلم من أين أتى بكل هذه الجرأة؟ لعلّه تمسك بهذا الأمل الأخير، في فندق فارغ إلا من جثة مسكينة.. عندما حلّ الرباط الأخير، وفتح القماش؛ وضع الجميع أيديهم على عيونهم، وكانت المفاجأة..ثمة شيئٌ صلبٌ ممدّد مغطًى بأقمشة أخرى أيضًا،كشف القماش،وإذا بالجثّة عبارة عن عدد من البنادق الحربية موضوعة الى جانب بعضها، يغطيها شرشف عاجي محجّر، ومزخرف بورود زهرية..أمسك أبي بواحدة ورفعها الى مستوى وجهه،ثم وضعها على الأرض،وكذلك فعل بالبقية. طلب من والدتي أن تأخذ الشراشف والفرشة الكبيرة لنستفيد منها، وينام عليها الصغار. بعد وقت قصير أتى الشباب برفقة الناطور يسألون عن الموجودات ،وأخذوها معهم، واستبدلنا البنادق صباحًا بفرش اسفنجية جديدة،كانوا قد شرعوا بتوزيعها على النازحين..كان أبي يتمسّك بجهاز الراديو الأسود،يتنقل بين البي بي سي وبين إذاعة لبنان لمتابعة تقدم الصهاينة. لقد توقّف الاجتياح، أو ما أطلقوا عليه “عملية الليطاني”، وكانت البازورية هي النقطة الأخيرة في اجتياح العام 1978. ومنذ ذلك الحين، دخل محل أبي عصام التاريخ من أبوابه الواسعة،فهو المَعْلَم الأكثر شهرة الآن.. بالقرب منه، وضع الصهاينة هناك …الحاجز الأخير..