عندما ترتدي حلماً ليس لك

عندما ترتدي حلماً ليس لك
Spread the love

بقلم: قومري إنصاف _ الجزائر،/

هناك في اللاهنا في مكان ما بعيداعن هنا…
تحت ظلال شمعة خجولة، شاعرية كانت تحترق على قماش الساتان الأحمر… عندما يتراقص الحلم بالشغف على خطى الليل الموجوعة.
أما قلبها فقد كان ينبض بقوة كضرب الموج على جبين الصخر المهترئ، في عينيها غيم يتسابق يكاد يمطر، يبدو أنها لم تتمالك نفسها حتى تجرب الفستان عليها قبل أن تأتي الزبونة وتأخذ أمانتها من ورشة الخياطة.

ماهي سوى لحظات وهاهو جسدها يركض بجنون في ساحات المرايا وكأنه بريق الدمع يشق طريقه إلى خد المرمر، كانت تشبه جنون الغيم ورقص السنابل، ابتسامة الصدف على شطآن الأحلام المؤجلة التي طوتها أمواج ذاك البحر الكبير، ذلك النمش المنثور على وجهها والشعر الأحمر يتهافت مثل زبد البحر على كتفيها وكأن النيران تشتعل وتشتعل لتضئ ليل تشرين، كانت لحظة ثائرة عن كل تلك اللحظات المتشابهة بأربعين وجها في الحياة ببلدتها، تخلفت عن زمنهم وأخذت لنفسها طريقا مختلفا رافضة منطق السفن والطاحونة والرياح وكل تلك المسايرات دون روح أو معنى، فهي طالما أرادت أن تقفز من نجمة إلى أخرى دون أن تتأذى، أن تبدد الغيم الحزين حتى تنسى أنها لاتزال هنا في اللاهنا.

في قطيعة مع هذا العالم ووسط ذوبان في الآخر، هاهي لحظة ولادة أمل جديد خرج من رحم معاناة عاشت أسيرة العادات ووالتقاليد، “ثللي” كغيرها من ملايين الفتيات كبرت وبدأت تنتبه إلى هاته الحياة من جوانب أخرى تغافلت عنها التربية الصارمة في بلدة تخضع لعرف الكلمة المتوارثة، إسم يحمل معاني الحرية بكل شغفها لكن الأسماء لاتحمل منا شيئا فقد كانت حرية مسجونة منذ سبعة عشرة عاما بين سحر المنظر وغموض الجوهر في بلدة على سفوح جبال القبائل العتيقة.
كانت ثللي تعمل في ورشة خياطة تملكها إحدى سيدات المنطقة، هناك فتيات كثيرات تجتمعن على صوت الإبرة والخيط والماكينة تخطن ثياب الأمل والصبر والأحلام لترتديها أرواح مرقعة، طلبيات كثيرة كانت توزعها الورشة على المحلات وحتى في البلدات المجاورة مابين التطريز والخياطة والملابس الجاهزة، الأفرشة، جهاز العرائس.
ولاتكاد تخلو مثل هاته التجمعات من إيقاعات ودندنات لأغاني تقليدية، جو مليء باللحمة والأصالة والبساطة ونفس هذا يكون في غابات الزيتون أثناء موسم الجني ، كذلك في المعاصروالطاحونة و كافة المناسبات والأماكن هنا.
في ذلك اليوم غادر الجميع مبكرا سوى ثللي وصديقتها المقربة ” ليلى” التي تكاد لاتفارقها أبدا، كانتا بصدد إنهاء بعض المهام الموكلة إليهما من قبل المشرفة ، نزلت ليلى عن الدرج ومن شدة الدهشة تدحرجت كرة الخيط عن يديها قائلة:
_ أوووووه رائعة! ماهذا الجمال والفستان كأنه صمم لك.
_ ردت” ثللي” على عجلة من أمرها: كيف أبدو؟ _ وكأنها لاتزال تريد فوق الوصف وصفا_.
_حقيقة تبدين أميرة بهذا الفستان أميرة من بلاد الساتان، ثم تعالت أصوات الضحكات بينهما وكأنهما تسخران على الحقيقة من حولهما مؤمنتان بحجم عمق الحلم بداخلهما.
قالت ” ثللي” وبريق الشمع في عينيها يلمع، نوعية القماش رائعة أشعر وكأن الحرير يهرب من على جسدي وكأنني أرتدي الحياة التي طالما تمنيتها فستان بهاته الأناقة في مطعم فاخر على البوسفور أو بباريس مدينة العشاق…أو في ساحات إيطاليا لما لا.
ردت صديقتها والحسرة على شفتيها: ومن منا يختار قدره ، نحن هنا خلقنا وأية محاولات بعيدا عن هنا تبقى محاولات أيامنا في هاته البلدة تتكرر وكأن الزمن ثابت لايتحرك إما بين أشجار الزيتون للجني أو العمل هنا في الورشة أو في الطاحونة مع النسوة أو في أحد الأعراس للمساعدة حتى يأتي دورك مع أحد رجال البلدة وتتزوجين وتنجبين وتربين وتكونين كما الجميع، هنا مصيرنا واحد وطريقنا واحد وحياتنا واحدة، لقد إعتدنا وكثيرا على كل شيء.
أجابت ثللي بتذمر: إعتدنا!! …أنت ممكن، هن ممكن،هم ممكن، أنا لا ، ولست ضد نمط الحياة هذا فقط بداخلي شيء اعجز عن وصفه يحركني بقوة يكاد يسقطني من شدة الإصرار، هنا الحياة ليست سيئة اريد فقط فرصة تقرير ذلك بنفسي، لماذا لانسافر بمفردنا لماذا لايسمح لنا ان نكتشف أمورا جديدة لم يخبرنا بها احد من قبل لماذا لاتخرج ذاتنا من ذات هذا المجتمع الواحد المشترك!! ، اعرف ان الجميع يعتبرني مبالغة ووقحة أحيانا لكني اريد شيئا آخر مختلف بعيدا عن نمطية الحياة فقط….حتى هاته الشموع التي أشعلها في الأرض لأعيش لحظة مختلفة مسروقة من طيف الذاكرة يلومونني عليها.
سقط الليل على رأسها حين تذكرت وإنهارت الأحلام من حولها، حتى الفستان بدأ يبكي على جسدها يبدو أن وقت الفراق قد حان ووقت الحقيقة قد بان لكن مانعيشه ليس حقيقة، الحقيقة تعيش بداخلنا هي مانؤمن به وليس ماهو كائن، ليس الذنب ذنب أحد ربما هي فتاة عصية عن العادة والإعتياد فماذنب نمط عيش وجد منذ دهر، هي لم تكن ضد هذا لكن طموحها جاء بهذا.
كاد ظلام الموقف يطفو فوق ظلام الليل حتى نادت ليلى قائلة: ثللي تأخر الوقت أعيدي الفستان إلى مكانه غدا ستأتي الزبونة وتأخذه لأنها ستسافر بعد غد إلى فرنسا، جاءت زيارة لجدتها العمة خديجة زوجة صاحب الملبنة تعرفينه انت أيضا، هي من طلبت مني تضييقه عند الخصر البارحة، توخي الحذر إنها ماركة شانيل عزيزتي.
هاهي تلقي آخر نظرة على أحلامها قبل أن تطويها، بسرعة نزعت عنها تلك اللحظة قبل أن تتورط فيه أكثر، علقت الفستان وبدأت تهم بالرحيل حتى أخذها الحنين إليه وعادت مرة أخرى وسط هتافات الشمع الأحمر، ركضت تعانقه في لحظة تعثرت فيها اللحظة كثيرا وسقطت بعيدا …جرح يطفو وذنب يغفو على وقع الخبر الأليم، إنه بحث عن المعنى وسط إستعراض للأحزان الجاثية على ركبتيها ، أخذت تراقصه بجنون كان هناك الوضع في الورشة الكثير من الحب الحافي يركض يبحث عن قدر دون ضرر عن أمل دون ملل والطريق إلى الحلم كان قصير الشغف وكأن هذا الفستان أعاد الحياة لأحلامها الدفينة، فيه رائحة مشوقة تجعل أنفاسك ترتجف.
ثلاث خطوات إلى الأمام ثلاث خطوات إلى الوراء، الوجهة كانت إلى المنتصف إلى النهايات العبثية نهايات تعيش عند الحافة ، خطوات فارغة من الخطوات، قصائد مبعثرة مبتورة الكلام كل شيء بدأ يسقط حتى ماعدت أسمع سوى صوت الإحتراق .
نزلت ليلى عن الدرج تصرخ فماهي إلا دقائق قليلة كانت هنا وكان الوضع عادي:
_ماهاته الرائحة ! حريق! الفستان ! ثللي! وكم كان وقع ذلك صعبا، حالة من الهذيان والجريان في سهوة لحظة إحترق طرف الحلم على ضوء الشمع الأحمر، احترق الفستان .
ثم بكى الكحل الأسود في عينيها واكتسى طعم السواد وجنتيها حين تذكرت أن كل شيء يخف لينتهي، النجوم، القمر، الشمس،وحتى الأحلام تغادرنا وسط تشبثنا العميق بها وأن كل إنتصار ليس بسعادة.
لاالفتيلة تلوم الشمع ولاالشمع يلوم النار ولاالنار تلوم الريح، الجميع يحترق بمنطق السفن والطاحونة والرياح.
عندما ترتدي حلماً ليس لك…

النهاية.