بالأسود والأبيض!

بالأسود والأبيض!
Spread the love

بقلم الروائي نصار إبراهيم _ كاتب وروائي وباحث فلسطيني/

“مقتطف من عمل طويل قيد الإنجاز بعنوان: حكايات الولد حنظلة الراكض عند حافة البحر”
“هنا، عند مُنْحَدَرات التلال، أمام الغروب وفُوَّهَة الوقت
قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِ،
نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ،
وما يفعل العاطلون عن العمل:
نُرَبِّي الأملْ!” (محمود درويش)
***
غابت “قرية الشجرة” في أفق الرحيل. حملت الرياح غبارها الحزين ومضت جنوبا. لحظتها تمزق شئ في أعماق الولد الراحل نحو الشمال.
من يومها وهو يعقد يديه خلف ظهره. يخفض رأسه ويمضى صامتا. خلفه وطن وأمامه منفى. ضاعت رائحة البرتقال والليمون والنعناع الأليف. تلاشت رفوف العصافير التي تعوّدها تغامر على أشجار الصفصاف. في أقصى جنوب الشمال بدت خيام تهزها الرياح. أطفال ونساء وشيوخ يحضنون القهر. قالوا: هذا مخيم “عين الحلوة”.

لم يدر لماذا داهمته السخرية كالغبار المرّ: كيف تكون “العين الحلوة” مخيما!؟.
نادته أمه: تعال يا ناجي! تعال هذه آخر برتقالة معنا من هناك. وهذا آخر رغيف خبز وآخر شربة ماء من بئر البيت هناك. تعال!.
صرخت روح الولد كعصفور محاصر: كيف أصبح وطن البرتقال مجرد برتقالة من “هناك”!؟ كيف غابت حقول القمح لتصبح مجرد رغيف من “هناك”!؟، كيف أصبح بئر الماء مجرد شربة ماء من “هناك”!؟ كيف الوطن الذي كان “هنا” صار في لحظة “هناك”!؟ كيف!!!؟.

كان عمره آنذاك عشرة أعوام. شعر أسود أجعد. عينان سوداوان كما الليل. وجه كالحنطة. سار مع جموع اللاجئين ليلا ونهارا. أرهقه العطش. كان يقف حينا، يستدير وينظر. فتلوح أعالي اشجار الزيتون والبلوط والصبار وكأنها تودعه، وقبل أن تغيب في غبش الدمع يداهمه الوجع الأعمق، فينقبض قلبه الصغير. قالوا له: لا تحزن، هي أيام ثم نعود.

جنوبا عند حد الخيمة الأخيرة وأمام الأفق الأبعد، جلس الولد لا تفارق عيناه شمال الجنوب. قال الآن تعود العصافير “هناك” إلى أعشاشها لتنام في أحضان أشجار الصفصاف. الآن موعد المنحدرات مع بداية القمر. موعدُ تفَتُّح شجرة اللوز بجانب بئر الماء للنّدى.

قال الولد: لا يمكن أن يغيب الوطن بهذي السهولة. هذا غير منطقي وغير عادل. كيف لشجرة الخروب أن تنام قبل أن أتمرجح على أغصانها مع المغيب وأغني للعصافير العابرة!؟ كيف سيأخذ ماء البئر طعم الدهشة إذا لم يغتسل قمري ليلا فيه!؟

في البحر الممتد حتى الأفق الأبعد. يقترب الموج ويبتعد. تابعه الولد حنظلة طويلا، قال: لا بحر في الشمال، فخذني جنوبا حيث أمنياتي المؤجلة. هناك أرقص كما رقص الكنعاني الأول لصَدَفة تخبئ غابات المرحان أجمل لؤلؤة. نجوم البحر تقترب قليلا. مد الولد يده إليها فحملها التيار بعيدا. قال: لا بأس فتلك أقدار نجوم البحر أن تكون حيث تكون فلسطين.

في تلك المسافة الفاصلة ما بين الخيمة والوطن. على سفوح الجليل. ما بين اليقظة والحلم. جابت ذاكرة الولد كهوف الكنعانيين الأولى. مرت على مرج ابن عامر. جبال الخليل. تلال حيفا وعكا. نابلس وبيت لحم ورام الله. شواطئ غزة. صعد إلى المنحدرات فوق أريحا. ومن أعالي الجروف الصخرية أطل على البحر الميت. فبدت جبال مؤاب في الجهة الأخرى. انحدرت غزالة وغابت بين الصخور. حلق صقر ةتابعه الولد وهو يمضي شرقا.

أمام الأرض وذاته. وقف الولد يتأمل الرسومات على جدران الكهوف. هنا حول مواقدهم جلس الأجداد الكنعانيون، نساء ورجال وأطفال. هنا رسموا غزلانا طيورا وأشجارا، عناقيد عنب، جِرار زيت ونبيذ. تأمل الولد تشكيلات التكوين الأولى، ومن بين جميع الرسومات شده تكوين ولد في العاشرة منقوش بالمغرة الحمراء. اقترب منه حتى غاب فيه.

تناول الولد عودا متفحما وراح يرسم. من يومها وهو يرسم. لم يتوقف. راح يرسم على الأرض والصخور. على جذوع الأشجار. على الرمال والدفاتر والأوراق. على شادر الخيمة. على جدران البيوت. على وجوه المدن الصامتة بعارها. على شواهد أضرحة الشهداء. لم يعد يتكلم إلا نادرا. كان داخله يغص بوجع مرير. توقف عن الكلام والثرثرة تماما. راح فقط يرسم بالأسود على خلفية بيضاء ممتدة على مدى الذاكرة القادمة.

قال: سأرسم بالأسود معه تكون الحدود واضحة وقاطعة. لا مكان للرمادي في قلبي. لم يتركوا لي هامشا للألوان. هذا الأسود الصارم لا يترك مجالا للالتباس. معه أقطع شكي باليقين. أعيد تأكيد الذاكرة المرّة كطعم القهوة. هو لون فاصل ما بين ليل ونهار، بين وطن ومنفى، بين مقاومة وخضوع، بين انتصار وهزيمة، بين مخيم عين الحلوة وقرية الشجرة، بين فلسطين ونقيضها، بين رصاصة وزهرة حنّون. هو الأسود يفرض ذاته على الأبيض. لا مكان مساومة أو مهادنة.