الوباء الكونيّ إذ يفضح الشرط الإنسانيّ

الوباء الكونيّ إذ يفضح الشرط الإنسانيّ
Spread the love

صلاح سالم _ كاتب وباحث من مصر/

في المُواجَهة العاصفة مع الوباء الكونيّ (كوفيد-19) وجدَ البشرُ أنفسَهم أسرى لقواعد التباعُد الاجتماعيّ دوماً، رهْن العزْل المنزليّ غالباً، والحجْر الصحيّ نادراً، فيما ينهض بأعباء الحياة من حولهم أصحابُ مِهنٍ لم تكُن تحظى كثيراً باهتمامهم. وفي المُقابل اختفى نجوم المُجتمع المُخمليّ، أرباب الفنّ والرياضة والكرنفالات الدعائيّة، الذين طالما أقاموا الدنيا وشغلوا الناس، ما يدعونا إلى إعادة التفكير في الشرط المُعاصِر للوجود الإنسانيّ.

والحقّ أنّ مفهوم “الشرط الإنساني” إنّما يتداخل مع مفهوم “القدر الإلهي” من دون أن يتماهى معه أو يذوب فيه؛ فلكلّ شخص وُلد وعاش في هذا العالَم مُلابسات حياة تختلف كثيراً أو قليلاً، سلباً أو إيجاباً، عن السابقين عليه أو التالين له، البعيدين عنه أو المُحيطين به، وذلك بفعل تبايُن الظروف الحاكِمة لبيئة الحياة في الأزمنة المُتعاقِبة والمُجتمعات المُختلفة. تَنسب الثقافات التقليديّة، وخصوصاً ذات المرجعيّة الدينيّة، هذه المُلابسات المُختلفة إلى الخطّة الإلهيّة للوجود البشري، إذ تراها قدراً لا فكاك منه، كونها موروثة عن الآباء والأجداد. أمّا الثقافة الحديثة فلا ترى في تلك المُلابسات قدراً حتميّاً بل مجرّد نقطة انطلاق، شرط تاريخي قابل للتغيير عبر الكفاح المُستمرّ ضدّ ما يعوّق ازدهار الإنسان، انطلاقاً من رؤية تنويريّة مُتفائلة حيال الطبيعة الإنسانيّة بلغت ذروتها لدى فولتير وروسّو تعتقد في قابليّة الإنسان للترقّي من خلال التربية والتعليم والحريّة.

يُمكننا الحديث هنا عن شرط إنساني إيجابي يتمتّع الفرد في سياقه بركائز قوّة متعدّدة كالثروة والسلطة والنفوذ، مثلما يتمتّع ببيئة حياة راقية ومنظَّمة، نتيجة وضعه الطبقي المُتميّز. وفي المقابل يُمكن تخيُّل شرط إنساني سلبي يُجابِه الفرد بمعوّقات كالفقر والبطالة والمرض، أو يضغط عليه ببيئة حياة ظالمة وقاهرة نتيجة وضعه الطبقي المتدنّي. بل إنّ ثمّة تفاصيل قد تميِّز الأفراد المُختلفين داخل الطبقة الواحدة يُمكن ردّها للحظّ الفردي أو القدر الشخصي، فجمال الأنثى قد يمنحها فُرصاً واعدة للحياة عبر الزواج خارج السياق الاجتماعي الضاغط عليها، عكس نظيرتها الأقلّ جمالاً، والتي لا يُتاح لها تلك الحركة خارج هذا السياق. يشعر الإنسان فى ظلّ الشرط الإيجابي بالقدرة على تحقيق الذّات، والسيطرة على المصير، كما يشعر بالعجز والضياع في ظلّ الشرط السالِب.

كما يُمكننا الحديث عن محدّدات مُجتمعيّة للشرط الإنساني تختلف في العصر الواحد بين دولٍ مُتقدّمة أو حرّة وأخرى مُتخلّفة أو مُستبدّة، فلو تصوّرنا شابّاً ذكيّاً وطموحاً وُلد في ريف مصر أو جنوب لبنان أو ريف حلب هذه الأيّام، فلن يزيد حلمه عن أن يكون طبيباً ناجحاً أو قاضياً أو غير ذلك من مِهن الطبقة الوسطى المُعتبَرة. أمّا إذا وُلد بالسّمات الشخصيّة نفسها، في مُجتمعٍ حرّ ومُنفتِح كالمُجتمع الأميركي، فقد ينفتح أمامه الباب إلى أعلى مَوقِع في البلاد على منوال الرئيس ذي الأصول الأفريقيّة باراك أوباما. وهكذا يُصبح مُمكناً تعديل الشرط الإنساني بالكفاح والصبر، وإن لم يكُن مُمكناً كسْره والخروج منه كليّة، إذ يكفي الرجل البسيط شرفاً أن يُعلِّم أولاده ليكونوا أفضل حالاً منه ولو بدرجة واحدة، ثمّ يأتي أولادهم ليرتقوا بأنفسهم درجة أخرى، وهكذا تتحرّك الإنسانيّة على طريق الكمال، على الرّغم من عمق الآلام التي قد يُواجهها أفراد النَّوع الإنساني.

وأخيراً لا آخراً يُمكننا الحديث عن مُلابسات حضاريّة للشرط الإنساني، فثمّة عصر البداوة حيث ساد نمطَا إنتاجِ الصيد والرعي، ولم يكُن الإنسان فيهما حرّاً إزاء الطبيعة المُخيفة التي لم يكُن قد سيطرَ عليها العِلمُ بعد، وإن كان حرّاً إزاء الآخرين حوله، حيث عجز النمطان عن بِناء نظامٍ اجتماعي مُستقرّ تتحكّم فيه سلطة مركزيّة وتصونه تقاليد وأعراف مستقرّة على منوال العصر التقليدي/الزراعي الذي أتى بعده، ليصوغ شرطاً مُختلفاً، تحرَّر فيه الإنسان نسبيّاً إزاء الطبيعة بفعل ميلاد العِلم التقليدي القائم على المنطق الصوري، وارتقاء العقل نوعاً، وإنْ فقدَ بعضاً من حرّيته إزاء الجماعة التي باتت أكثر استقراراً في ظلّ سلطات أكثر مركزيّة من مَمالِك واسعة وإمبراطوريّات عابرة للأقاليم، وأيضاً تحت ضغط الأعراف والتقاليد التي ستُصبح أكثر رسوخاً وتحكّماً في حياة الإنسان. أمّا الشرط الإنساني الحداثي، فصار واعِداً بتحرُّرٍ فائقٍ للذّات الفرديّة سواء من الطبيعة المُخيفة بقوّة الثورة العِلميّة الهادِرة، أم من قبضة الجماعة المُحيطة بها سياسيّاً من ربقة السلطات الحاكمة عبر الديمقراطيّات الصاعدة، وثقافيّاً من التقاليد والأعراف الاجتماعيّة الرّاسخة. لقد انتصرت الحداثة، وما رافقها من تقسيمٍ جديد للعمل يُناقِض عصور الصيد والزراعة والإقطاع العسكري، لأصحاب المَواهِب اللّامعة، القادرين على الخلْق والإبداع ولو كانوا ضعاف البنية، على حساب أصحاب الأجساد الفتيّة، القادرين على النزال والصراع في ما لو افتقدوا المَوهبة، وهو أمر جيّد جعلَ شروط الحياة أكثر ديمقراطيّة وإنسانيّة.

غير أنّ عصر ما بعد الحداثة أفرطَ في هذا الاتّجاه مُنتصِراً أوّلاً للمَوهبة وحدها على حساب الكفاح البدني والاجتهاد الإنساني، قبل أن يتحيَّز ثانياً لمَواهِب العالَم المُخملي/الافتراضي/الترفيهي، على حساب مَواهِب العالَم الواقعي/الحقيقي/العملي العِلميّة والطبيّة والفكريّة، حتّى اكتشفَ العالَم فجأة، وهو كشْف لا بدّ وأن تتوقّف عنده كلّ المُجتمعات بالفحص والدرس، أنّ أبطال الحياة الحقيقيّة من المُجتهدين والمُكافحين، وأنّ صنّاع القيمة من الأطبّاء والمُهندسين والعُلماء وليس من الزرّاع والصنّاع فقط، لا يكادون يحصلون على شيء أو يشعر بهم أحد، وأنّ صنّاع الترفيه ورموز الحياة الافتراضيّة، وربّما صنّاع الوهْم، هُم الذين يحصلون على كلّ شيء تقريباً، وينشغل بهم الجميع دوماً، حتّى أنّ نزواتهم الشخصيّة من قبيل الفضائح الفنيّة، أو وقائع الهروب الكرويّة، تصير غالباً مَوضعَ اهتمامٍ وباباً للترويج ومَورِداً للكسْب ربّما أكثر من وقائع إنجازاتهم الفعليّة.

الواقع المشوَّه

هذا الواقع المشوَّه هو الذي أشار إليه المفكّر الجزائري الراحل مالك بن نبي قبل عقود، في واحدة من إلماحاته اللّافتة التي لا تصدر سوى عن مَوهبةٍ بكر، وخيالٍ خلّاق، عندما اعتبر أنّ المُجتمع المريض هو ذلك الذي يشبه سلّماً مقلوباً، تتناقض فيه قيمة البشر الحقيقيّة مع حظوظهم الآنيّة، فيكون أصحاب القيمة المعرفيّة والمهنيّة والأخلاقيّة في أدناه، لا سعر لهم في سوق الحياة الواقعيّة، أمّا الذين يفتقدون إلى تلك القيمة، ويكتفون غالباً بأدوارٍ كالتوسّط والسمسرة والدعاية والترفيه، فيُصبحون في أعلاه، يستحوذون على أكبر العوائد الماليّة وربّما النفوذ والشهرة، الأمر الذي يَعكس خللاً جسيماً في قلب الشرط الإنساني، يزيد من مساحة الألم لدى البشر، ويُربِك مَسيرة ارتقاء المُجتمعات.

هذا الاختلال هو الذي عرَّته مِحنة كورونا على صعيد العالَم كلّه، فأولئك الذين كانوا نجوماً لمُجتمعاتهم قبلها لم يكُن لهم أيّ دَورٍ في مُواجهتها. أمّا أبطال الإنسانيّة الحقيقيّون، الذين تصدّوا للوباء، ودفعوا في مُواجَهته أرواحهم أحياناً، وعَرَقهم الغزير دائماً، فجاءوا من كهوف المُجتمعات وأحشائها الطبقيّة، إذ لم يكُن الكثيرون يرونهم أو يتوقّفون عندهم على الرّغم من قيمتهم العِلميّة والإنسانيّة. لقد أَبرزت المِحنة دَور عموم الأطبّاء الذين عانوا الكثير من نير التحيُّز والغبن. كما أَبرزت المِحنةُ دَورَ أطقُمِ التمريضِ الذين وقفوا في الصفّ الأوّل للمُواجَهة بجانب الأطبّاء في معركتهم ضدّ الوباء، على الرّغم من النظر إليهم بما يشبه الازدراء. وأبرزت كذلك أدوارَ عُمّال النظافة والتطهير في كلّ مكان على الرّغم من مَشاعر الدونيّة التي طالما أحاطت بهم قبلها. وفضلاً عن هؤلاء، ثمّة جيوش العاملين في المَرافِق التي لم تتوقّف قطّ لتستمرّ الحياة في سَريانها كالصيادلة وأصحاب المَخابِز، وعمّال النقل…إلخ. وفي المُقابل، كان لاعِبو الكرة، والفنّانون: مطربون وممثّلون، والموديلز من عارضات الأزياء والإكسسوارات، ونجمات الدعاية والإعلانات، وكِبار رجال البيزنس، يختفون في أبراجهم المُشيَّدة وقلاعهم الحصينة خلف أسوار المُنتجعات والكومباوندات، مُمتنعين عن أيّ نشاط، بل يحتاجون إلى مَن يخدمهم في مَواقِع تبطّلهم، ويُسرّي عنهم في أوقات استرخائهم، يعانون المَلل ويرتعدون من الخوف، ليس لديهم ما يقدّمونه للناس في مِحنتهم.

لنتأمّل حال طبيبة مصريّة، على سبيل المثال، فقدت حياتها دفاعاً عن أهلها، كيف اجتهدت في دراستها لتلتحق بكليّتها (المرموقة). كم من جهدٍ بذلت في تحصيل علومها، وكم من السنين سهرت حتّى حملت لقب (دكتورة). ولننظر كم من المال حصدت، ومن الشهرة حازت. ولنقارنها بفتاة إعلانات لا تملك سوى دلالها، تظهر لبضع دقائق في إعلان قد يكون فجّاً، تُحصِّل به من المال والشهرة أضعاف ما حصلت عليه الطبيبة الشهيدة طيلة حياتها. ينطبق هذا على أيّ ممثّلة شبه معروفة، قد لا تملك إلّا جمالها، إذ تجدها ضيفة على كلّ البَرامج التافهة على الشاشات الفضيّة، تُمارِس دلالها أمام مذيعة أجهل منها، تُجاملها حتّى النّفاق، بعد أن تدفع لها القناة مقابل خيلائها الكاذب، وثرثرتها الشخصيّة، وربّما غير اللّائقة. الأمر نفسه ينطبق على لاعبي الكرة، الذين يحصدون ملايين الجنيهات، مع شهرة واسعة وحبّ جماهيري دافِق، فإذا ما اعتزلوا تحوّلوا مباشرة إلى إعلاميّين وليس مُحلّلين فقط، على الرّغم من جهل بعضهم المُطلق، ليس بمِهنة الإعلام فحسب، إلى درجة يتفنّنون معها في إثارة الفِتن، بدلاً من إنارة الناس، ما يُمثِّل سطواً أخلاقيّاً على كِفاح وعِلم أولئك الذين حلموا بمُمارسته وأَفنوا حياتهم في دراسته، فلم يجدوا أيّ فرصة للظهور. وفي المقابل يغيب عن تلك الشاشات اللّامعة أعظم أطبّائنا، وأهمّ عُلمائنا، وأكبر باحثينا، أولئك الذين لجأنا إليهم، وقمنا باستدعائهم، وقت شدّتنا كي يدفعوا عنّا الوباء.

مثل هذا الاختلال لا يليق بمُجتمعاتنا “المُتمديِنَة”، ويتعيَّن عليها مُحاولة التخلُّص منه. أمّا المُفاجأة السارّة التي تُقلِّل من حدّة الشعور به، فتكمن في وجود أبعادٍ معنويّة للشرط الإنساني كالإيمان والحبّ والفنّ، تجعله أكثر توازُناً وثراءً، إذ تزيد من قدرة الإنسان على تذوُّق الأبعاد الأخلاقيّة والجماليّة للحياة. فبينما تلبّي القدرات الماديّة غريزة الطموح البشري إلى ما هو أقوى، فإنّ المُمكنات المعنويّة تُلبّي ملكة التسامي إلى ما هو أرقى. والمؤكَّد لدينا أنّ أفضل شرط إنساني إنّما يتحقّق بالتوفيق بين ركائز الطموح وملكات التسامي، بين الكفاح في مُعتركات الحياة بغية التقدُّم، وبين بصيرة تُدرِك أنّ ازدهار الإنسان رهْن قدرته على تجسيد القيَم والفضائل التي تؤكِّد على جوهره الخالد وليس على مُلابسات وجوده المُتغيِّر. فإذا ما عجزَ الإنسان عن التوفيق بين غريزة طموحه ومُمكنات تساميه، فالأغلب أن يتورَّط في السعي إلى حيازة القوّة على حساب الحِكمة، حيث تكمن الفجوة الهائلة التي تزيد من أوجاع البشر وآلام الوجود.