القوة الناعمة لإسرائيل تجاه أفريقيا جنوب الصحراء وأثرها على الوجود الاسرائيلي

القوة الناعمة لإسرائيل تجاه أفريقيا جنوب الصحراء وأثرها على الوجود الاسرائيلي
Spread the love

إيمان الشعراوي- باحث متخصص في الشؤون الأفريقية/

تحتل افريقيا مكانة كبيرة في السياسة الخارجية الإسرائيلية سواء من ناحية التركيز على إقامة العلاقات مع دول القارة والحصول على إعترافها أو من ناحية التحولات التي طرأت على هذه العلاقات، حيث أن الاهتمام الإسرائيلي بالقارة الأفريقية لم يكن حديث العهد، بل سعت إسرائيل لربط علاقات مع الدول الأفريقية منذ تأسيسها عام 1948 لما تتسم به من أهمية إستراتيجية وسياسية وإقليمية، وقد ترواحت هذه العلاقات بين فترات فتور وقوة إلا أنه على الرغم من التباين في المواقف لم تتوقف الاتصالات الإسرائيلية مع إفريقيا.

ومع تغير المعادلات وتأثير الظروف الراهنة من وجود توجه نحو إقامة العلاقات مع إسرائيل من قبل بعض الدول العربية والأفريقية اعتبرت الفترة الحالية من المراحل المتطورة في العلاقات الإسرائيلية الافريقية، فالبيئة الإفريقية التي كانت تتحفظ على التطبيع مع “إسرائيل” بسبب الرفض لجرائم الاحتلال الإسرائيلي تجاه الشعب الفلسطيني شُكلت معادلة بديلة تقوم بموجبها بالتعاون مع إسرائيل على أساس المصالح المشتركة في كافة المجالات وعدم وضع القضية الفلسطينية في الاعتبار.

وعلى الرغم من اختلاف توجهات الحكومات الإسرائيلية نحو افريقيا إلا أن تولي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة عام 2009 وبخاصة خلال ولايته الثانية، كان بمثابة نقطة تحول كبيرة في العلاقات الإسرائيلية الأفريقية حيث شهدت تغيرا ملحوظاً تجسد في الزيارات التي قام بها إلى أفريقيا، وهي الأولى من نوعها لرئيس وزراء إسرائيلي منذ 50 عاماً، رفع خلالها شعار “إسرائيل تعود إلى أفريقيا، وأفريقيا تعود إلى إسرائيل”، وافتتاحه مقرًّا دبلوماسيًّا في كيغالي عاصمة رواندا، تلتها مشاركته في القمة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) في ليبيريا في العام 2017، كأول زعيم غير أفريقي يُدعى لحضور القمة في حدث غير مسبوق.

فضلًا عن زيارته لأوغندا وحثها على إقامة سفارة لها في القدس ولقائه مع رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبدالفتاح البرهان، والاتفاق على تطبيع العلاقات بين البلدين وهو ما له من دلالة على تحولات المواقف العربية تجاه إسرائيل، ويعيد إلى الأذهان قمة الخرطوم العربية في أعقاب نكسة 1967م، والتي عُرفت بقمة اللاءات الثلاث””لا سلام مع إسرائيل، لا اعتراف بإسرائيل، لا مفاوضات مع إسرائيل” بالإَضافة إلى إقامة إسرائيل علاقات قوية مع تشاد في أعقاب زيارة نتنياهو للعاصمة إنجامينا، ومؤخرًا هناك حديث عن إمكانية فتح تشاد سفارة لها في القدس وعلى الرغم من تعدد الأدوات التي استخدمتها إسرائيل للوصول لأفريقيا إلا أنها وجدت القوة الناعمة أقوى سلاح تستطيع من خلاله غزو القارة السمراء واستمالة شعوبها.

وفي هذا المقال تسليطٌ للضوء على مظاهر القوة الناعمة الإسرائيلية في افريقيا جنوب الصحراء ، من خلال مناقشة جملة من المحاور، أولها: محفِّزات التوجُّه الإسرائيلي تجاه إفريقيا جنوب الصحراء، أما المحور الثاني: فهو معني بتناوُل أسباب تغير التوجهات الافريقية وإندماجها في علاقات مع إسرائيل ومحفزات التوجه الأفريقي تجاه إسرائيل، أما المحور الثالث فيتحدث عن مراحل العلاقات الإسرائيلية الافريقية ، وعن المحور الرابع فأنه يناقش تجلِّيات القوة الناعمة الإسرائيلية في إفريقيا ويُخْتَتم المقال بطرح تداعيات القوة الناعمة على الوجود الإسرائيلي في افريقيا.
أولاً: محفّزات التوجُّه الاسرائيلي صوب إفريقيا:
لم يكن التوجه الاسرائيلي نحو تعزيز وجوده داخل القارة الافريقية يأتي دون محفزات وأهداف محددة تسعى إسرائيل لتحقيقها، حيث أن إسرائيل التي بدأت غزوها الدبلوماسي لدول القارة السمراء بعد الصدمة التي لاقتها جراء رفض مشاركتها في مؤتمر باندونغ عام 1955 وادانة الأعضاء المشاركين فيه الممارسات الإسرائيلية تجاه فلسطين وشعبها، أدركت أهمية إيجاد موطيء قدم لها في القارة السمراء جنبًا إلى جنب مع الجانب العربي والقوى الغربية الكبرى.
إن الحديث عن محفزات التوجه الإسرائليي لافريقيا بغية توطئة نفوذها الثقافي والأيديولوجي من خلال أدوات عدة، تُشكِّل في مجملها القوة الناعمة الاسرائلية في إفريقيا يجب أن يفهم في سياق محددات السياسة الخارجية الإسرائلية نحو افريقيا بوجه عام سواء انتهجت أدوات القوة الناعمة أو القوة الصلبة أو الجمع بينهما في استراتيجيةٍ متكاملة أو ما بات يُعْرف بالقوة الذكية.

وهي محفزات ثلاثة رئيسية يأتي في مقدمتها الرغبة الاسرائيلية في كسب تأييد الدول الإفريقية في المحافل الدولية والتأثير على السلوك التصويتي لهم حيث تتمتع أفريقيا بثقل تصويتي كبير في المنظمات الدولية وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة وتشكل حوالي 31-32% من إجمالي أصوات أعضاء المنظمة ، ودائمًا ما كانت تصوت هذه الكتلة التصويتية ضد إسرائيل، لذلك فأنها تسعى للتأثير على السلوك التصويتي للدول الأفريقية من أجل تأييد “إسرائيل” وخدمة مصالحها ودعم مركزها الدولي وإضعاف التأييد الأفريقي للقضايا العربية، خاصةً في القضايا ذات العلاقة بالصراع العربي الإسرائيلي، وقد قال بنيامين نتنياهو في فبراير 2017 أمام تجمع لسفراء إسرائيل في إفريقيا “سواء في النهاية أو في البداية ، هدفنا هو تغيير أنماط التصويت، مع وجود ثلاث نقاط في مجلس الأمن وربع مقاعد ثابتة في الجمعية العامة للامم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان واليونسكو ، يمكن لهذه الدول الافريقية الـ 54 أن تحدث فارق كبير في القرارات التي تتراوح من محاولة إقامة دولة فلسطينية إلى إدانة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس”.
ويجب الإشارة إلى أن هذه السياسة انتهجتها إسرائيل لعقود وذلك للخروج من الحصار العربي بإستمالة الأفارقة والحصول على دعمهم السياسي في المحافل الدولية وقد أعطت العلاقات الودية مع عشرات الدول الأفريقية إسرائيل بُعد إضافي مهم في جهودها لإحباط هدف العرب بعزل ونزع الشرعية عن الدولة اليهودية.

ثاني تلك المحفزات ينصرف إلى تطويق الأمن القومي العربي وتهديد أمنه المائي حيث تعمل إسرائيل على تحجيم النشاط العربي في أفريقيا من خلال تطويق الدول العربية بحزام موالي لإسرائيل بتعميق الخلافات بين الدول العربية والأفريقية، والسيطرة على البحر الأحمر لأن تواجدها فيه يؤمن لإسرائيل الحفاظ على أمنها القومي والوصول للعالم الخارجي، فهي تخشى من تحوله إلى بحيرة عربية خالصة فالبحر الأحمر نقطة رئيسية في الأمن القومي العربي والسيطرة عليه تعتبر نقطة قوة كبرى لمن يمتلكه، كما أصبحت قضية الأمن المائي من أهم المحاور الرئيسية التي أضافت بعدًا جديدًا للصراع العربي الإسرائيلي، فإسرائيل تريد أن تضمن الحصول علي المياه وفي نفس الوقت تريد أن تمنع العرب من ذلك، لذلك فهي تعمل علي تهديد الأمن المائي العربي خاصة مصر، مستفيدة في ذلك من النفوذ الكبير الذي تمتلكه في دول المنابع مثل إثيوبيا ورواندا وكينيا، وتعد الأطماع الإسرائيلية في مياه نهر النيل ليست جديدة فنجد أنه بعد توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979 ظهرت عدة مقالات في الصحافة الإسرائيلية تدعو لشراء مليار متر مكعب من مياه النيل وتوجيهها لصحراء النقب لتأمين المياه لإسرائيل، إذا فالأهداف الإسرائيلية في تهديد الأمن المائي العربي واضحة وصريحة.

ويتمثل المحفز الثالث في الاستفادة من الثروات الطبيعية التي تزخر بها القارة الأفريقية وموقعها الجغرافي المتميز حيث أنه إلى جانب الأهداف السياسية كانت هناك دوافع براغماتية أخرى دفعت إسرائيل إلى دخول إفريقيا وعلى رأسها المصالح الاقتصادية والتجارية فأفريقيا غنية بالمواد الخام كالمعادن مثل الماس والذهب والأخشاب والكاكاو والقهوة والزيوت، كما تنتج العديد من الدول مثل نيجيريا وأنجولا والجابون وتشاد كميات كبيرة من النفط، ويتم اكتشاف مصادر جديدة للنفط بانتظام في خليج غينيا وشرق أفريقيا،، كذلك هدفت إسرائيل إلى غزو الأسواق الإفريقية وفتحها أمام الاستثمارات والمنتجات الإسرائيلية وتحقيق تبعية الاقتصاد الإفريقي لها لكسر الطوق الاقتصادي العربي في القارة.

وقد شكّل الموقع الجيوسياسي للبحر الأحمر وكذلك مضيق باب المندب أهمية كبرى، لذا حرصت القيادة الإسرائيلية على الوصول إلى البحر الأحمر والحصول على منفذ بحري على هذا البحر الذي يربط قارة إفريقيا بآسيا، كما ظلت سياسة إسرائيل في القرن الإفريقي امتدادًا لسياستها في البحر الأحمر رامية إلى منافسة الأهداف الإستراتيجية العربية، وإنشاء عمق إستراتيجي لها في هذه المنطقة للحفاظ على أمنها وضمان تحقيق مصالحها وتطلعاتها للهيمنة وتوسيع الوجود العسكري وترسيخه، وذلك يتيح لها إمكانية الهجوم المباشر على خصومها في مضيق باب المندب، ، وتأمين خطوطها البحرية والعسكرية فضلًا عن التجسس على العديد من الدول العربية وهي (مصر- السعودية- اليمن- جيبوتي- الصومال- السودان)، لذا سعت إسرائيل إلى توثيق علاقتها بدول القرن الإفريقي ولاسيما إثيوبيا وأيدت سيطرة إثيوبيا على أريتريا منذ عام 1952، عندما أعلن موشي ديان أن أمن إثيوبيا وسلامتها يشكلان ضمانة لإسرائيل.

ثانيًا: محفزات التوجه الأفريقي نحو إسرائيل
التغيّر في الموقف الإفريقي تجاه إسرائيل وإقباله على ربط علاقات مع إسرائيل كان له عدة عوامل وأسباب..
1-الاستفادة من النموذج الإسرائيلي في التنمية، حيث أن الدول الأفريقية وخاصة تلك الموجودة في إفريقيا جنوب الصحراء أصبح لديها استعداد للمشاركة في العلاقات مع إسرائيل وذلك لأنها ترى أن التعاون معًا قد يمكنها من مواكبة التطور الذي تتمتع به إسرائيل، حيث أن امتلاك إسرائيل لتكنولوجيا متقدمة أوحى لبعض الدول الافريقية أنها قادرة على تقديم المساعدة لهم، كما أنه لا خوف من هذه المساعدات على المساس بسيادتهم حيث أن الافارقة يستبعدون أي شكل من أشكال الهيمنة الاسرائيلية، ولم يجدوا أي سبب للخوف من”الاستعمار الجديد” في تعاملهم مع قوة صغيرة مثل إسرائيل، فهي تمتلك مهارات وخبرات من النوع الذي يحتاجه ويريده الأفارقة، وبحسب اعتقاد بعض الدول الأفريقية أن جمع إسرائيل بين الحجم الصغير والتكنولوجيا المتقدمة جعلها تترجم أحدث الإنجازات التكنولوجية إلى شكل قابل للتكيف مع دول أفريقيا ، وكما قال مسؤول من السنغال: “يبدو الأمر منطقيًا بالنسبة لنا أنه نظرًا لأننا صغار يمكننا أن نتعلم من بلد صغير متقدم أكثر من دولة ذات كفاءة كبيرة” .
2- القضية الفلسطينية لم تعد عنصر رئيسي في العلاقات الافريقية الإسرائيلية، لم تَعُد القضية الفلسطينية بسبب انقسام الداخل الفلسطيني من جهة، وتبعات ما بعد الربيع العربي من جهة أخرى عنصرًا مهيمنًا في علاقات إفريقيا مع العالم العربي والإسلامي، بالإضافة إلى تراجع مستوى المساعدات والدعم الفني الذي تلقته البلدان الإفريقية من العالم العربي في المقابل، وعلى سبيل المثال، كان التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة حول وضع القدس، والذي أُجرِيَ في ديسمبر 2018م، بعد أن اعترف الرئيس الأمريكي ترامب بأنها عاصمة لإسرائيل كاشفًا حيث أظهر ردود فعل متباينة مِن قِبَل الدول الإفريقية، لذلك فأن الدول الإفريقية بدأت تنظر‏ إلى إسرائيل بشكلٍ يختلف عن تكالب القوى الكبرى والوسطى في النظام الدولي عليها.
3- إقامة عدد من الدول العربية علاقات مع إسرائيل كما أن تغيُّر مواقف بعض الدول العربية من إسرائيل دفع بكثير من الدول الإفريقية أن تحذو حذوها، وعلى الرغم من أن العديد من الدول الإفريقية لا تزال تقف خلف الخطاب الرسمي التقليدي “لدعم الحقوق الفلسطينية”، إلّا أنّها في الواقع العملي أصبحت غير مبالية نسبيًّا بالضغط الذي يُمارَس عليها من أجل عدم الارتباط بإسرائيل، على سبيل المثال، لم يَعُدْ تصويت كلّ من غينيا والسنغال وهما من البلدان الإفريقية ذات الأغلبية المسلمة -إلى جانب تشاد- تلقائيًّا مع الكتلة العربية الإسلامية في الأمم المتحدة في مواجهة إسرائيل، ومع ذلك، لا تزال الكتلة العربية الإسلامية تَستهدف هذا التعاون ولو من الناحية العلنية، كما هو واضح عندما تمّ إلغاء قمة إسرائيل-إفريقيا التي كان من المفترض عقدها في توغو في أكتوبر 2017م، بسبب ضغوط من بعض الدول العربية.
4- مكافحة الارهاب ضمن الجهد الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الامريكية لمحاربة ما يسمى بـ”الإرهاب” قدّمت إسرائيل نفسها على أنها دولة تحارب الإرهاب والتطرف في إفريقيا، وسوّقت لذلك دوليًّا وبين الدول الإفريقية، وقدّمت المساعدات الاستخباراتية والاستشارات ونشرت الخبراء دعمًا لبعض الحكومات الإفريقية في مواجهة الإرهاب.
لذلك يمكن القول أن النزاع الإسرائيلي الفلسطيني لم يعد عقبة أمام التعاون الاقتصادي بين إسرائيل والدول الأفريقية فالمصالح لها الأسبقية على القضية الفلسطينية، حيث أصبحت جنوب إفريقيا التي كانت داعمًا غير مشروط لفلسطين من أوائل شركاء إسرائيل الاقتصاديين، ودول أخرى مثل أنجولا ومؤخراً تشاد التي هي جزء من منظمة التعاون الإسلامي التي تدافع عن الفلسطينيين توطد علاقتها مع إسرائيل.
ثالثًا: مراحل تطور العلاقات الإسرائيلية الإفريقية
شهد تطور العلاقات الإفريقية مراحل متباينة منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي بحيث يمكن التمييز بين 5 مراحل أساسية في تاريخ العلاقات بين إسرائيل وإفريقيا وهي:
مرحلة التأسيس والاعتراف ( 1948 – 1967)
شهدت هذه المرحلة تصاعدًا تدريجيًا في العلاقات “الإسرائيلية” الأفريقية من خلال تزايد الاعترافات ب”إسرائيل” والتي تخللتها تقديم بعض المساعدات “الإسرائيلية” في المجالات العسكرية والتقنية، فالسنوات الأولى من قيام الكيان الإسرائيلي” لم تشهد نشاطاً واضحاً في قارة أفريقيا، وبدأت العلاقات في النمو بعد منتصف الخمسينيات وتحديداً بعد مؤتمر باندونج عام 1955، حيث لم توجه الدعوة إلى إسرائيل لحضور هذا المنتدى الدولي العام، بل وتم تبني سياسة مقاطعة إسرائيل وإدانة احتلالها للأراضي العربية، وبحلول عام 1962 كان قد وصل عدد سفارات “إسرائيل” إلى 23 في أفريقيا، كما اتسمت الفترة ما بين (1957 -1963) بتبادل الزيارات بين قادة “إسرائيل” وزعماء أفريقيا، حيث قامت وزيرة الخارجية “الإسرائيلية” آنذاك (جولدا مائير) بزيارة عدد من الدول الأفريقية مثل السنغال ونيجيريا وغانا وليبيريا ، فضلاً عن قيام الرئيس “الإسرائيلي”إسحاق بن تسفي عام 1962 بزيارة خمسة دول أفريقية.
مرحلة التراجع والانكماش (1967 – 1977)
تميزت هذه المرحلة بالتضامن الافريقي مع العرب وقطع العلاقات مع إسرائيل.
وإذا كان العام 1967 قد شهد ذروة العلاقات الإسرائيلية الأفريقية فقد مُثل أيضاً بداية التراجع والتدهور في هذه العلاقات ففي بداية هذا العام أكملت إسرائيل بناء علاقاتها الدبلوماسية مع 32 دولة، بالإضافة إلى تمثيل قنصلي فخري مع خمس مناطق أخرى كانت مستعمرات لدول غربية, ومن جانب آخر كانت إحدى عشر دولة أفريقية تقيم تمثيلاً دبلوماسياً لها في تل أبيب، ولكن بعد حرب 1967 بدأت صورة إسرائيل تهتز في أذهان القادة الأفارقة فبعد أن كانت منظمة الوحدة الأفريقية تتجنب إدانة إسرائيل، بدأ موقفها بالتغير التدريجي فأخذت تطالب بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة، ومع ازدياد التقارب العربي الأفريقي وإزاء التعنت الإسرائيلي بدأت منظمة الوحدة الأفريقية تتخذ قرارات أكثر حزماً وصولاً للقرار الذي اتخذته المنظمة في 1973، والذي تضمن تحذيراً رسمياً لإسرائيل بأن رفضها الجلاء عن الأراضي العربية المحتلة يعتبر اعتداء على القارة الأفريقية وتهديداً لوحدتها, وأن الدول الأعضاء في منظمة الوحدة الأفريقية تعتبر نفسها مدعوة لأن تأخذ منفردة أو بصورة جماعية أية إجراءات سياسية واقتصادية مناسبة لصد ذلك العدوان، وقد مُثّل هذا القرار نقطة تحول إيجابية في تطور رؤية إفريقيا للصراع العربي الإسرائيلي.
مرحلة الانفراج في العلاقات (1977 – 1991) ( ما بعد كامب ديفيد)
جاءت زيارة الرئيس المصري محمد أنور السادات للقدس في نوفمبر عام 1977 لتشكل نقطة تحول في التقارب الأفريقي الإسرائيلي، فهذه الزيارة أسهمت في انفتاح بعض الدول الافريقية على إسرائيل ، وفور هذه الزيارة نشر بعض الزعماء الأفارقة بيانات تأييد للمبادرة واعتبروها خطوة صحيحة نحو حل النزاع العربي الإسرائيلي وأشاد بالزيارة رئيس ساحل العاج، هوفوييه بوانييه ووصفها “بخطوة شجاعة للغاية تستحق التقدير والاحترام”، وأصدر بيانات تأييد أيضا كل من:رئيس ليبيريا، وتشاد، والجابون، وبوركينا فاسو، ومالاوي؛ وحكومات كل من: غانا، وزائير، والكاميرون، وسيراليون، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة 1978 أيدت 11 دولة أفريقية اتفاقيات كامب ديفيد وهي: ليبيريا، والكاميرون، وجامبيا، وموريشيوس، ورواندا، وسيراليون، ونيجيريا، وجمهورية أفريقيا الوسطى، ولاسوتو، وساحل العاج، وغانا وعارضت دولتان: أنجولا وإثيوبيا؛ أما البقية فلم تتعرض للاتفاقيات من الجدير بالذكر أنه حتى أولئك الذين لم يؤيدوا اتفاقية السلام وجدوا أنها خطوة أولى في طريق حل النزاع العربي الإسرائيلي، كما أعلن نائب الأمين العام لمنظمة الوحدة الأفريقية، في زامبيا في مايو 1979 ، أن المنظمة “تدرس بجدية استئناف العلاقات مع إسرائيل بعد التوقيع على معاهدة السلام، وأن الدول الأفريقية تؤيد المبادرة المصرية لرغبتها في أن يسود السلام المنطقة”.

وفي عقد الثمانينيات من القرن الماضي شهد مرحلة بناء ونمو هذه العلاقات، فزاد عدد الدول الأفريقية التي استأنفت علاقاتها مع “إسرائيل”، كما زادت وتنوعت أشكال المساعدات “الإسرائيلية” لتلك الدول لتبدأ مسيرة الخطوات العكسية في إعادة العلاقات، وتُوج ذلك من قبل زائير”الكونغو الديمقراطية حالياً” عام 1982، حيث كانت في حاجة ماسّة للمساعدات العسكرية “الإسرائيلية” حينها، خاصةً في ميدان تدريب الجيوش، فارتبطت زائير بمعاهدة عسكرية تنص على قيام “إسرائيل” بإعادة بناء الجيش الزائيري، وإيفاد مستشارين عسكريين إليها لتدريب سلاح البحري
مرحلة ازدهار العلاقات ( 1991-2015) :
يعتبر مؤتمر مدريد للسلام الذي عقد عام 1991، واتفاق أوسلو واتفاق وادي عربة من أهم أسباب عودة العلاقات “الإسرائيلية”الأفريقية، فقد تمكنت “إسرائيل” بعدها من استعادة علاقاتها مع معظم الدول الأفريقية، وهو ما ساعدها على تخطي قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي تم اتخاذه عام 1975 واعتبرت بموجبه الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، ومنذ عام 2001 شهدت العلاقات “الإسرائيلية”الأفريقية –على المستوي الرسمي- تقارباً ملحوظ فقد زاد معدل زيارات وزير الخارجية “الإسرائيلي”والمبعوثين التي كان محورها توطيد العلاقات بين الطرفين، وكما شهدت العلاقات الثنائية تعاوناً عسكرياً بين “إسرائيل” وكل من كينيا وإريتريا في مواجهة العمليات الإرهابية، وبالنظر للمستويين الرسمي والشعبي يتضح وجود حالة من التباين في المواقف والأفعال بين كلٍ من الجانبين، فعلى المستوي الرسمي حدثت حالة من التقارب بين الدول الأفريقية و”إسرائيل”، أما على المستوى الشعبي ظهرت حالة من النفور والرفض للتغلغل “الإسرائيلي”في القارة وظهر ذلك واضحاً في المظاهرات الاحتجاجية التي خرجت في مصر وليبيا والعمليات المسلحة التي استهدفت المصالح “الإسرائيلية” في كينيا .
وفي 2015 تحدثت إحدى تقارير صحيفة جيروزاليم بوست ( Jerusalem Post ) عن وجود تحسن في العلاقات الأفريقية – الإسرائيلية – في السنوات الأخيرة – مستشهدة برفض اللجنة العامة للوكالة الدولية للطاقة الذرية في سبتمبر 2015 مشروع فرض الرقابة الدولية على المنشئات النووية الإسرائيلية، حيث أن أربعة دول أفريقية ” بوروندي، وكينيا، ورواندا، وتوجو” صوتت ضد القرار، وامتنعت 17 دولة أفريقيةعن التصويت، في حين ثماني دول نأت بنفسها عن المشاركة في التصويت، ولم تصوّت سوى سبع دول بأفريقيا جنوب الصحراء ضد إسرائيل.

من 2016 إلى الان “موجة التطبيع”
مُثل عام 2016 نقطة تحول كبيرة في تاريخ العلاقات الإفريقية الإسرائيلية حيث أنه في الرابع من يوليو 2016 قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بجولة أفريقية شملت أربع دول هي أوغندا ورواندا وكينيا وإثيوبيا، والتقى خلالها أيضاً رؤساء دول أخرى مثل جنوب السودان وتنزانيا وزامبيا، وحظيت هذه الزيارة التي تعد الأولى لرئيس وزراء إسرائيلي إلى أفريقيا جنوب الصحراء منذ عام 1987، باهتمام من الدوائر الرسمية والإعلامية على المستويين العربي والأفريقي، وأثارت الكثير من الجدل حول دوافعها وفعالياتها وما حققته من نتائج وانعكاس ذلك على الأمن القومي العربي.

ولقد تمت زيارات نتنياهو في أجواء مناسبة في كل مرحلة من مراحل رحلته حيث ردد الرئيس الكيني أوهورو كينياتا “أفريقيا بحاجة لإسرائيل” ، وتعهد بالعمل من أجل استعادة الدولة العبرية صفة مراقب داخل الاتحاد الأفريقي، وتابع أن “إعادة دمج إسرائيل في هذه المنظمة الإفريقية أمر ضروري لكل أولئك الذين يرون الإرهاب تحديا مشترك”، وقد عزز نتنياهو زيارته باصطحاب 50 من رجال الأعمال الإسرائيليين وشيك بقيمة 13 مليون دولار مخصص للاستثمار في إفريقيا فضلًا عن الرسائل التي وجهها في عنتيبي حيث احتفلت إسرائيل وأوغندا بالذكرى السنوية الأربعين للعملية التي قادها كوماندوز “جيش الدفاع الإسرائيلي” لإنقاذ مئات الرهائن من رحلة باريس تل أبيب التي اختطفها فدائيون فلسطينيون ، كما تمكن بنيامين نتنياهو من تكريم أخيه الأكبر يوناثان الذي قُتل بالرصاص في الدقائق الأولى من الهجوم في 4 يوليو 1976 ، وفي 6 يوليو ، في كيغالي برواندا ذهب نتنياهو إلى نصب جيزوزي التذكاري حيث دفن حوالي 250 ألفًا من بين 800 ألف من ضحايا الإبادة الجماعية في رواندا في مقابر جماعية.
واختتم نتنياهو زيارته بإثيوبيا وشارك نظيره الإثيوبي هيلا مريام ديسالين في ندوة اقتصادية لرجال أعمال إسرائيليين وإثيوبيين، دعا فيها الحضور إلى الاستثمار في كلتا الدولتين واعدًا بدعم الحكومة الإسرائيلية لإثيوبيا وزيادة الاستثمارات الإسرائيلية فيها.
وفي تطور اخر للعلاقات الإسرائيلية الافريقية وجهت توجو دعوتها إلى 54 دولة أفريقية للمشاركة في القمة “”الإسرائيلية”-الإفريقية”، التي كان من المقرر انعقادها في نهاية أكتوبر 2017 وكان من المتوقع مشاركة ما بين 20-30 رئيس دولة أفريقية فيها، إلا أن وسائل الإعلام “الإسرائيلية” أعلنت أنه تقرر إلغاء القمة حيث بررت تل أبيب إلغاء القمة بتصاعد الأحداث التي تشهدها المنطقة وعدم الاستقرار الذي تشهده الدولة المضيفة، فيما رجّحت التقديرات أن السبب يعود للضغوطات التي مارستها السلطة الفلسطينية والعديد من الدول العربية.
وفي نوفمبر 2017 قام نتنياهو بزيارة إلى كينيا للمشاركة في مراسم أداء القسم الخاصة بالرئيس كينياتا بعد فوزه في الانتخابات للمرة الثانية، وهي في الواقع ثالث زيارة لنتنياهو إلى أفريقيا وقد التقى خلال زيارته برؤساء كل من (تنزانيا وأوغندا وزامبيا ورواندا وتوجو وبوتسوانا وناميبيا) ، ورئيس حكومة إثيوبيا، ونائب رئيس نيجيريا، وقادة آخرون، وقد صرح أنه خلال العامين الماضيين تم افتتاح أربع مكاتب تمثيل أفريقية في “إسرائيل”.

وبحسب نتنياهو الذي وصف حضوره اجتماع رؤساء دول الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس) في ليبيريا بمثابة حلم في عام 2017 ، وخلال هذا الاجتماع وقَّع المسؤولون الإسرائيليون مذكرة تفاهم لاستثمار مليار دولار بحلول عام 2021م لتعزيز مشاريع الطاقة والتنمية الاقتصادية في الدول الأعضاء الخمسة عشر في الإيكواس.
ومع تزايد الزيارات الإسرائيلية نحو أفريقيا في السنوات الأخيرة صعد الأعلام الإسرائيلي من حديثه عن ” الربيع الإسرائيلي في افريقيا” وقد تصاعد هذا الخطاب خاصة بعد عودة العلاقات الاسرائيلية مع غينيا في يوليو 2016، وبعد زيارة الرئيس التشادي ” إدريس ديبي” إلى إسرائيل في نوفمبر 2017، والتى وصفت بالزيارة التاريخية خاصة أنها تعتبر الزيارة الأولى منذ أن قطعت تشاد علاقتها مع إسرائيل منذ 1973 حيث أشارت وسائل الاعلام الإسرائيلية إلى أن العلاقات مع تشاد تفتح الباب أمام أفق جديدة من سياسة إسرائيل تجاه الدول ذات الاغلبية المسلمة في أفريقيا، وعقب زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي ” بنيامين نتنياهو” إلى تشاد في يناير 2019، أعلن صراحة من هناك أن هذه الزيارة كان هدفها التمهيد لاستعادة العلاقات مع مالي والنيجر ذات الاغلبية المسلمة.
وتريد إسرائيل الاستفادة من التقارب مع تشاد خاصة أنها تمتاز بموقع إستراتيجي هام نسبيًا بالنسبة إلى إسرائيل فهى تقع بالجوار من السودان وجنوب ليبيا وهما دولتان كانا يتخذان مواقف متشددة من إسرائيل، وبالنسبة لها الدخول في علاقات مع تشاد يعنى فتح باب للتواجد بالقرب من هذه الدول، في الوقت الذي كثفت إسرائيل من اتصالاتها مع الدول الافريقية ذات الاغلبية المسلمة الواقعة جنوب الصحراء الكبرى .
كما تُعد زيارة نتنياهو لأوغندا في فبراير 2020م ذات أهمية بالغة في سياق الترويج لصفقة القرن والبحث عن حلفاء جدد، وهو ما يتضح من خلال حثّ أوغندا على فتح سفارة لها في القدس مقابل قيام إسرائيل بفتح سفارة في كمبالا، وقد وعد الرئيس موسيفيني بدراسة العرض الإسرائيلي، كما وافق على بدء تسيير خط طيران مباشر بين كمبالا وتل أبيب، ولقاء عنتيبي بين نتنياهو ورئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبدالفتاح البرهان، والاتفاق على إقامة العلاقات بين البلدين وهو ما يعكس صدمة التحوُّلات في المواقف والأهداف في النظامين العربي والإفريقي.
زيارات رئيس الوزراء الإسرائليي نتينياهو لافريقيا
زيارة نتنياهو الدول الافريقية
2016 أوغندا ورواندا وكينيا وإثيوبيا
2017 المشاركة في الإيكواس بدولة ليبريا
2017 كينيا
2019 تشاد
2020 أوغندا
الجدول من إعداد الباحث

ثالثًا: تجلِّيات القوة الناعمة الإسرائيلية في إفريقيا
تستخدم إسرائيل أدوات عدة لتحقيق أهداف سياستها الخارجية في القارة الافريقية، إلا أن التركيز على القوى الناعمة وإستغلال الأداة الثقافية اخذ الجانب الأبرز، وتنوعت مظاهر القوة الناعمة الإسرائيلية بين تجليات لكسب عقول وقلوب الأفارقة مثل المساعدات التنموية أو مظاهر تسعى لإجتذاب الأفارقة وتغيير الصورة السلبية لإسرائيل من أنها كيان يحتل أراضي الفلسطينين وذلك مثل الدعاية الإسرائيلية والاعلام اليهودي وأكاذيب التاريخ الذي يروج لها الإسرائيلين، فضلًا عن الجاليات اليهودية التي لها دور في تكريس الوجود الإسرائيلي في القارة الأفريقية.
1- أسطورة التاريخ المشترك
تسعى إسرائيل إلى اجتذاب الدول الافريقية عن طريق إبراز العوامل المشتركة حيث تصور أنها والأفارقة الزنوج لهم تاريخ مشترك وتعرضوا للاضطهاد، ويتم مقارنة وضع اليهود في أوروبا في ظل النازية بما تعرضت له شعوب أفريقيا في زمن الاستعمار الأوروبي ، وقد عبر عن ذلك وزير خارجية إسرائيل بقوله أثناء زيارته لإفريقيا” لقد عبر كل منا ممرا طويلا من الحزن و الألم و التمييز, البعض من اللون الآخر و البعض من العنصرية و العقيدة” ، كما أن تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية ، كتب في أحد كتبه:”هناك قضية أخرى تتعلق بالتمييز العنصري وعمق هذه المشكلة التي تنطوي على الفظائع والمعاناة يمكن أن يفهمه اليهود جيدًا.. أعني معاناة السود.. أنه سؤال جاد جدا. .فكر في رعب تجارة الرقيق – الإنسان يتم اختطافه وبيعه كعبيد بسبب اللون الأسود لـأجسادهم… ينمو أطفالهم في بيئة أجنبية.. محتقرون فقط بسبب اللون الأسود لوجههم… انا لست خجول لأعد بذلك ، دع الناس يضحكون علي بسبب ذلك.. الآن بعد أن رأيت ملف إحياء الأمة اليهودية… أود كثيرا أن أشارك وأساعد في عملية الفداء وإحياء السود”.
كما استثمرت إسرائيل بعض الاساطير الغير حقيقية لتعزيز علاقتها بالدول الأفريقية ومثال على ذلك اثيوبيا، حيث زعمت أن العلاقات الاثيوبية الاسرائيلية ترجع إلى عصر ملكة سبأ “بلقيس” التي جاءت إلى النبي سليمان (عليه السلام) إلى القدس وبعد زواجهما ولدت (مينيلك) الذي هو أحد أجداد الامبراطور هيلاسيلاسي، وحاولت إسرائيل تدعيم ذلك الزيف التاريخي بمقولة الإمبراطور ( هيلاسيلاسي الأول) وخصوصًا أنه لجأ ومجموعة من الإثيوبين عام 1936 إلى القدس بعدما قامت إيطاليا بغزو إثيوبيا.
2- الدعاية الاسرئيلية
تحرص إسرائيل على تصوير نفسها مثالًا يقتدى به في الديمقراطية ومركز أشعاع حضاري ، وتحرص على التسويق لذلك في الدول النامية و العالم ككل, كما أنها تزعم أنها الدولة العصرية والمتقدمة تكنولوجيًا الوحيدة في المنطقة، وابداء ادعاء الحرص على مصلحة الدول الإفريقية, كما تبرز دومًا تجربتها في التنمية الاقتصادية واصفة إياها بالمعجزة إذ أنها تردد أنها قامت بتحويل “الأرض الجرداء القاحلة إلى جنات”, بعد أن أهملها “الغزاة العرب” و “دمروا معالم الحياة فيها” , حسب قولها و ما فعله من بعدهم الاستعمار البريطاني ثم تحولت في سنوات قليلة إلى جنة بعد أن عاد إليها “أصحابها من الإسرائيلين”، وكل ذلك مزاعم لتبرير سياساتها الإستيطانية.
في الوقت نفسه كانت إسرائيل تصور العرب بأنهم “دعاة حرب” و تصفهم على أنهم رمز “للنظم الدكتاتورية” و أنهم “تجار رقيق” و”مستعمرون” يسعون للسيطرة على جنوب القارة، وقد اعتمدت إسرائيل في دعايتها و تقديم نفسها للدول الإفريقية على وسائل إعلام ضخمة حيث تمتلك إسرائيل واليهود أداة إعلامية متقدمة من إذاعات و صحف وخصصت الإذاعة الإسرائيلية برامج للبث باللغات الإفريقية على 15 موجة من 4 محطات إذاعية تبثها ب 11 لغة مختلفة, كما كان يوجد في إفريقيا 42 صحيفة تخدم الأهداف الإسرائيلية في القارة، لقد لعبت السياسة الاتصالية في إفريقيا دورا هاما في عمليات التنشئة السياسية والثقافية لتهيئة قاعدة وطيدة من التأييد لإسرائيل على الرغم من الممارسات التي تقوم بها ضد الشعب الفلسطيني, وتأكيد الروابط مع كافة القيادات الإفريقية و في كافة المجالات و مواجهة التأثر الإفريقي بتجربة الثورة المصرية و محاولات ليبيا المستمرة لتأكيد الصلات العربية مع إفريقيا.
3-المساعدات التنموية
تحاول إسرائيل إستخدام برنامج التعاون الدولي الانمائي لتحقيق أهداف سياستها الخارجية تجاه أفريقيا، يعني ذلك أن سياسة المساعدات التنموية التي توجهها إسرائيل لأفريقيا تمثل تطبيقًا عمليًا لمفهوم القوة الناعمة ومما يزيد من فاعلية هذه السياسة إن إسرائيل تضفي عليها بعدًا ثقافيًا ودينيًا وذلك من خلال طرح المفهوم “الرسالي للشعب اليهودي” وفكرة “الخلاص” وهو ما يتضح في كتابات الجيل المؤسس للدولة العبرية، ولا شك أن هذا المفهوم يقدم إسرائيل باعتبارها نموذجًا لبناء الدولة والقيم التي تقوم عليها، فضلًا عن تقديم المساعدات التنموية باعتبارها تمثل منظومة القيم للشعب اليهودي في مختلف أنحاء العالم، ولعل استخدام برنامج “تيكون أولام” أو مساعدة اليهود في إصلاح العالم ضمن اليات التعاون الدولي الإسرائيلي إنما يعكس هذا التوجه لدى صانع القرار الإسرائيلي.
وتعتبر وحدة التعاون الدولي “ماشاف” أكبر تكريس لاستخدام المساعدات التنموية كأحد سلاح القوى الناعمة وقد فرضت التحديات الخطيرة التي تواجه أفريقيا مكاناً بارزاً لـ “ماشاف” حيث ركز على أكثر من مجال ولم يقتصر على التنمية فقط ، وذلك مثل الأمن الغذائي وسلامة المياه والصرف الصحي والرعاية الصحية والنمو الاقتصادي وبناء المجتمع وتمكين المرأة والتعليم وذلك من خلال برنامج تنمية شامل وبذلك يكون الأثر ملموساً من قبل الأفارقة الذين يحتاجون المساعدة أكثر من غيرهم بحسب مزاعم اسرائيل.
ومؤخرًا استغلت إسرائيل جائحة فيروس كورونا “كوفيد 19” واثره السيء على أفريقيا في الوقت الذي تعاني منها معظم دول القارة الافريقية من تدهور المنظومة الصحية لذلك عرضت إسرائيل مساعدتها حيث يزعم الإسرائيليون أنهم يسعون لمساعدة الأفارقة في اجتياز Covid-19 وتوفير أجهزة تنفس بسبب النقص المتزايد منها في افريقيا حيث أن هناك300 شركة ومنظمة غير ربحية حول العالم تستعد لإنتاج أجهزة تنفس باستخدام خطة تصميم إسرائيلية. ويقول مخترعوها من الإسرائيلين أن مشروعهم الخاص بأجهزة التنفس الصناعي بقيمة 500 دولار فقط يمكن أن يمنع انهيار أنظمة الرعاية الصحية في إفريقيا.
كما أنه من خلال الاستفادة من مواردها الدبلوماسية والأمنية والاقتصادية والتكنولوجية تُظهر إسرائيل نفسها أيضًا في إفريقيا عبر قضايا الطاقة والبيئة والصحة، فعلى مستوى السكان المحليين يتم تنفيذ المبادرات من خلال “ماشاف” فأكثر من نصف أنشطة الوكالة التابعة لوزارة الخارجية الإسرائيلية تخص القارة الأفريقية ، كما يتم تدريس اللغة العبرية وتقديم برامج تدريبية ورحلات منظمة إلى إسرائيل للطلاب أو المهنيين في مجالات مختلفة مثل الصحافة والزراعة والطب، وهنا جانب اخر مهم تقوم به إسرائيل في سبيل تفعيل القوى الناعمة وهو تفاعل السفارات والبعثات الدبلوماسية الإسرائيلية في إفريقيا باستمرار على صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي لاستهداف الجمهور الأفريقي خاصة الشباب ويتم تكييف كل صفحة مع سكان الدول التي تعمل فيها البعثات حيث تُظهر الحياة اليومية للدبلوماسيين الإسرائيليين في جولات مستمرة جنبًا إلى جنب مع المسؤولين الأفارقة عن المبادرات الاجتماعية والاقتصادية المحلية أو المسؤولين المحليين المنتخبين ، وغالبًا ما يتم ذلك في المواقع المدعومة ماليًا من قبل السفارة الاسرائيلية.
4-الجالية اليهودية
يوجد للكيان الإسرائيلي جاليات مؤثرة في إفريقيا ولا يخفى أن استخدام إسرائيل ليهود إفريقيا يساهم في دعم النفوذ السياسي الإسرائيلي والاعتماد المتبادل بين اليهود خارج إسرائيل، وهذه الفكرة ترتبط بتجميع يهود الشتات في إسرائيل وتعمل البعثات الدبلوماسية الإسرائيلية في إفريقيا على تنظيم زيارات يهود إفريقيا إلى إسرائيل واستقطاب المتطوعين من اليهود الذين أنهوا خدمتهم العسكرية وهذا ينطبق على يهود جنوب إفريقيا, بالإضافة إلى جلب الأموال منهم لمصلحة إسرائيل وسعت إسرائيل إلى تنظيم دورات خاصة ليهود الشتات عن طريق مؤسسات عديدة منها الوكالة اليهودية ومنظمة المحاربين القدماء الإسرائيليين لتكريس ارتباط اليهود بها حيث قالت جولدا مائير رئيسة الوزراء السابقة: “إن على إسرائيل في مواجهتها للدول العربية، داخل حدودها وعلى المسرح الدولي، أن تبذل جهوداً فائقة لاكتشاف مسالك جديدة لتمكنها من اختراق الحصار المفروض عليها”, ومن الطبيعي أن تكون المهام الأساسية للبعثات الإسرائيلية في إفريقيا العمل على تنمية الروابط بين إسرائيل واليهود هناك.
وقد منحت الجالية اليهودية في أفريقيا دعماً كبيراً ل”إسرائيل”، حيث تحتضن القارة الأفريقية عدداً من الجاليات اليهودية لا سيما يهود (الفلاشا) في أثيوبيا، واليهود في جنوب أفريقيا وزيمبابوي وكينيا، وتستغل “إسرائيل” وجود تلك الجاليات في معالجة النقص الديموغرافي في “إسرائيل”، وزيادة الكثافة السكانية فيها، كما أنها تقوم بتوظيف أبناء تلك الجاليات لتحقيق مصالحها والتأثير على الأنظمة الأفريقية في المجالات المختلفة. ففي جنوب أفريقيا تُعد الجالية اليهودية واحدة من أغنى الجاليات اليهودية في العالم ذات التأثير المباشر على الاقتصاد “الإسرائيلي”فهي تحتل المرتبة الثانية من مساهمة يهود الجاليات ( الشتات) في خزانة الدولة العبرية بعد الجالية اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية، بَيدَ أنه إذا أُخذ بعين الاعتبار حجم كلٍ من الجاليتين لوحظ أن نسبة تبرعات يهود جنوب أفريقيا وفقاً لعددهم تفوق في بعض السنوات تبرعات اليهود الأمريكيين.
خامسًا : اثر القوة الناعمة الإسرائيلية في افريقيا على الوجود الإسرائيلي
“إسرائيل تعود إلى إفريقيا بشكل كبير.. وإفريقيا قد عادت إلى أحضان إسرائيل” كلمات لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عكست الوضع الراهن للعلاقات الافريقية الاسرائيلية وحجم الإنجازات التي حققتها إسرائيل في غزو القارة السمراء واختراقها من أكثر من اتجاه.
كانت القارة السمراء تاريخياً أبرز الداعمين للقضايا العربية والفلسطينية على حد سواء، ففي أفريقيا توجد 10 دول عربية تحتل مساحة 71 % من القارة، ويعيش 86 % من سكان الوطن العربي في القارة الأفريقية، كما إن القارة تشترك مع العالم العربي ومع القضية الفلسطينية في حالة النضال المماثل، انعكست كل هذه التقاطعات مع مواقف دول القارة في دعم القضية الفلسطينية، وبالذات في المحافل الدولية حيث كان للقارة وزناً تصويتياً لصالح فلسطين بما أن عدد الدول الإفريقية يبلغ 54 دولة.
أي أن القضية الفلسطينية لفترة طويلة كانت خلافًا لا يمكن تجاوزه بين إسرائيل وأفريقيا، لكن تل أبيب استطاعت أن تغير هذه الأمور وقدمت نفسها لأفريقيا بصورة خادعة في كافة المجالات الثقافية والامنية والاقتصادية.
وهو ما ترتب عنه خلال السنوات الأخيرة تقارب بين أفريقيا وإسرائيل أبرزها تدشين إسرائيل علاقات دبلوماسية مع دول القارة ( توجو، تشاد، أوغندا، كينيا، رواندا، إثيوبيا، غانا، كوت ديفوار … وغيرها)، والزيارات المتبادلة بين زعماء دول القارة ونتنياهو، وتشكيل لوبي موالٍ للقارة السمراء في الكنيست العام 2016 ، عدا عن الإعلان عن قمة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا بمشاركة نتنياهو، قبل أن تُلغى بضغط من المغرب وبعض دول القارة وامتلاك إسرائيل عشر سفارات في افريقيا.
واعتمدت إسرائيل خطةً ممنهجة للاعتراف بها من قبل دول القارة والتحكم في تصويت كتلة الدول الافريقية في الامم المتحدة مما يكرس وجودها ويعطيها المزيد من الاعتراف والقبول على المستوى الدولي، وذلك من خلال العمل على امتناع الدول الأفريقية عن التصويت لصالح القضية الفلسطينية، مقابل إبرام عقود التنمية الاقتصادية والتعاون الأمني، وقد نجحت في تحييد الصوت الأفريقي أو اكتسابه لصالحها خلال السنوات الماضية، ومثالاً على ذلك، فإن أكثر من 20 دولة أفريقية امتنعت عن التصويت على قرار الولايات المتحدة إدانة حركة المقاومة الإسلامية «حماس »، في الأمم المتحدة في كانون الأول 2018 ، وصوّتت دولتا توغو وأريتريا لصالحه، كما إن رفض القرار الأميركي الخاص بالقدس المحتلة في الأمم المتحدة، لاقى حياداً من 8 دولٍ أفريقية، وواحدة صوّتت لصالحه هي توغو أيضاً.
لذلك فأنه بعد مرور أكثر من 71 عاماً على قيام دولة الكيان الصهيوني فإن نجمة داود ترفع في العواصم الأفريقية. هذه القارة التي كانت تعتبر إلى وقت قريب منطقة نفوذ عربية بامتياز، تراجعت الأنظمة العربية عن دورها التاريخي فيها فاسحة المجال لإسرائيل كيفما أرادت مقدمة خبراتها العسكرية والأمنية وغيرها، وبالتأكيد أن مثل هذه التطورات ليست في صالح القضية الفلسطينية بل أنها منحت إسرائيل مزيد من القبول وكرست من وجودها على مستوى العالم من أنها دولة لها داعمين وعلاقات مع دول القارة السمراء فضلًا عن أنها تحظى باعترافهم السياسي علنًا وتستفاد من مواردهم الاقتصادية وموقعهم الاستراتيجي.
خاتمة
ساعد التغلغل الإسرائيلي في افريقيا جنوب الصحراء على تحقيق مصالحها سواء في الحصول على مزيد من الاعتراف بها من قبل المجتمع الدولي، أو إعادة العلاقات مع دول أفريقية انقطعت منذ سنوات وذلك من خلال التفاعل عبر المجالات السياسية والاقتصادية، فضلًا عن عدم اقتصار هذا التفاعل على الجهات الرسمية فقط بل السعي للوصول للشعوب الأفريقية ومحاولتها تغيير توجهاتهم تجاه إسرائيل من أنه كيان محتل للأراضي العربية إلى دولة تسعى لمد يد العون للدول الأفريقية ومساعداتهم على التقدم والتنمية.
وعلى الرغم من الغطاء الثقافي والإنساني الذي تتستر وراءه نماذج القوة الناعمة الإسرائيلية في أفريقيا جنوب الصحراء إلا أن هذا الغطاء يُخفي وراءه الكثير من الأهداف التي لا تُبشر بالخير للقارة الأفريقية، وتُنذر بتقويض الأمن القومي العربي وأمن دول إفريقيا جنوب الصحراء وإستقرارها والقضاء على ما تبقى من القضية الفلسطينية وإغلاق صفحتها لصالح الكيان الإسرائيلي، وهو ما يفرض على الأمة العربية ضرورة التحرك لمواجهة الغزو الإسرائيلي الناعم للقارة الإفريقية ووضع تصور استراتيجي لبناء علاقة مميزة مع أفريقيا بالمعنى الشامل، كما أنه يجب أن يسترعي انتباه ومراجعة الدول الإفريقية القاطنة في جنوب الصحراء التي ينبغي أنْ توازن في سياساتها وتحالفاتها الدولية ولا تنساق وراء الكيان الإسرائيلي الذي يحمل في طياته مساعي للإضرار بأفريقيا واستخدامها كورقة ضغط في الصراع العربي الإسرائيلي .