التراث الثقافيّ العربيّ .. تحدّيات عدّة

التراث الثقافيّ العربيّ .. تحدّيات عدّة
Spread the love

بقلم: د. مثنّى العبيدي _ أكاديمي من العراق/

يعني التراث بشكل عامّ ما تركته الأجيال السابقة للأجيال اللّاحقة في مُختلف المجالات الفكريّة والدينيّة والتاريخيّة والأدبيّة والأثريّة والمعماريّة وغيرها، وبالشكل الذي يعكس طبيعة حياة مجتمع ما وسلوك أفراده وطريقة عيشهم؛ في المقابل، يُشير التراث إلى ما أنتجه مجتمعٌ ما من أفكارٍ في ماضيه. أمّا التراث العربي، فيُعرّفه غالي شكري بأنّه “جماع التاريخ المادّي والمعنوي للأمّة منذ أقدم العصور إلى الآن”.

يرى محمّد عابد الجابري في كِتابه “التراث والحداثة .. دراسة ومُناقشات” أنّ المقصود بالتراث الثقافي العربي هو “الجانب الفكري في الحضارة العربيّة الإسلاميّة: العقيدة والشريعة، اللّغة، الأدب، الفنّ، الكلام والفلسفة والتصوّف”. ويشمل التراث الثقافي العربي، بحسب محمّد وهيب، المَعالِم التاريخيّة ومجموعات القطع الفنيّة والأثريّة في بلدان العالَم العربي ودوله في بلاد الشام والمغرب العربي والخليج العربي وأفريقيا، كما أنّه يشمل التقاليد وأشكال التعبير الحيّة، الموروثة من جيل الأسلاف، التي تداولتها الأجيال جيلاً بعد جيل حتّى وصلت إلينا، مثل التقاليد الشفهيّة أو الفنون الاستعراضيّة، والمُمارسات الاجتماعيّة، والطقوس، والمَعارف، والمُمارسات المتعلّقة بالطبيعة والكَون، وكذلك المَعارِف والمهارات في إنتاج الصناعات الحرفيّة التقليديّة.

يُواجِه التراث الثقافي في الدول العربيّة عدداً من المَخاطر والتحدّيات التي أَفرزت الحروب والصراعات الكثير منها، والتي تستوجب التوجُّه المباشر نحو هذا التراث وتوفير الحماية المُناسبة له، مع كلّ ما يتضمّنه ذلك من آليّات ووسائل، وضمان الحفاظ عليه لما يشكّله من أهميّة للمجتمعات العربيّة، لعلّ أهمّها:

1. تحدّي العَولمة؛ حيث تأثّرت عناصر عدّة من التراث الثقافي ومضامينه، وبخاصّة غير المادّي، بالعَولَمة ومَظاهرها وضغوطها، وبمُحاولات تعميم التنميط، والسعي إلى فرْض أسلوب الثقافة الغربيّة، كأسلوبٍ أوحد، على مُجتمعات العالَم ودوله، ومنها دُول العالَم العربي؛ فمُعظم الدول العربيّة، إن لم نقُلْ كلّها، دخلت عصر العَولَمة من دون استعدادات كافية تجعلها قادرة على الإفادة من إيجابيّاتها والتحصُّن من تأثيراتها السلبيّة. ولم يكُن التراث الثقافي بمنأى عن التأثُّر، وبشكل كبير، بتلك العَولمة، لأنّ التراث مرتبطٌ بالهويّة والثقافات الوطنيّة، ولاسيّما بنسقه غير المادّي. فالعولَمة، ولاسيّما في جانبها الثقافي، تشكِّل التحدّي الأبرز أمام التراث الثقافي في المنطقة العربيّة (باخوديا دريس، “الحماية القانونيّة للتراث الثقافي الجزائري”، مجلّة العلوم القانونيّة والسياسيّة، المجلّد الخامس، العدد الثاني، بعقوبة، 2010)..

2. تحدّي الحروب والصراعات المسلّحة؛ حيث تشهد المنطقة العربيّة ودولها نشوب العديد من الحروب والصراعات المسلّحة سواء بين الدول أم في ما بين المكوّنات المجتمعيّة لدولة من الدول العربيّة. والمنطقة العربيّة تقع في مركز العالَم القديم الذي يُعدّ مهداً للحضارات على مرّ العصور، ومثلما تتزايد أهميّة حماية المدنيّين في الدول العربيّة من آثار الصراعات والحروب الأهليّة، تتزايد أهميّة حماية التراث الثقافي فيها كونه أحد أهمّ وسائل الحفاظ على هويّة شعوبها وما تحتضنه من تاريخ وتراث ثقافي إنساني (حماية التراث الثقافي للشعوب حماية للهويّة الإنسانيّة، مجلّة الإنساني، العدد 47 ، شتاء 2009/2010). وقد أثَّرت الحروب والصراعات على عددٍ من عناصر التراث الثقافي العربي بشكلٍ سلبي ومباشر سواء بتهديم هذه العناصر أم بإفنائها كما حدث في العراق وسوريا وليبيا، إذ تمّ أثناء الحروب استخدام العديد من المَواقع الأثريّة والمَعالِم التاريخيّة كمأوى للمُقاتلين وكمَخازن للسلاح، ما جَعَلَها عرضةً للاستهداف من قِبَل طرفَي الصراع.

بيَّن تقريرُ المُقرِّرة الخاصّة في مجال حقوق الإنسان المُقدَّم إلى الجمعيّة العامّة للأُمم المتّحدة في 9 آب (أغسطس) 2016، أنّ الحروب الأهليّة والنزاعات المسلَّحة في المنطقة العربيّة أدّت إلى تدمير الكثير من المَواقِع الأثريّة، ففي اليمن وحدها وصل عدد المَواقع ذات القيمة الدينيّة والثقافيّة والتاريخيّة التي دُمِّرت بسبب الصراع الدائر فيها إلى أكثر من 50 مَوقعاً أثريّاً، مثلما أنّ هنالك مَواقع أثريّة في العراق تعرَّضت للأضرار مثل موقع بابل الأثري الذي حوَّلته القوّات الأميركيّة في العام 2003 إلى قاعدة عسكريّة، ما أَلحق به دماراً شديداً. وتعرَّضت المَواقع الأثريّة في شتّى أنحاء سوريا للأضرار والتدمير المُستمرَّين ولم يتقيّد مختلف أطراف الصراع بالتزاماتهم التي تقضي باحترام التراث الثقافي وتجنُّب الإضرار بها في سياق العمليّات العسكريّة.

أمّا مدينة تدمر، التي تُعدّ من أهمّ المُدن الأثريّة عالَميّاً، فقد تعرَّضت للتدمير، وأصابتها أضرارٌ كبيرة بسبب الصراع الدائر في سوريا، إذ دمَّر عناصر داعش العديد من المَعالِم الأثريّة للمدينة كقوس النصر الشهير ومَعبدَي شمين والمسرح الروماني؛ وتعرَّضت مدينة حلب التاريخيّة إلى تدمير أكثر مَعالمها التاريخيّة، وهي المدينة التي تُعدّ من أقدم المُدن الأثريّة في المنطقة.

3. التدمير المتعمَّد؛ ويُعرَّف هذا التدمير، بحسب تقرير المُقرِّرة الخاصّة في مجال الحقوق الثقافيّة المقدَّم إلى الجمعيّة العامّة للأُمم المتّحدة في 3 شباط (فبراير) 2016 بأنّه: “الفعل الذي يهدف إلى تدمير تراثٍ ثقافيّ، كلّه أو بعضه، بحيث ينال من سلامته بشكلٍ يشكِّل انتهاكاً للقانون الدولي أو احتلالاً لا مبرِّر له لمبادئ الإنسانيّة وما يمليه الضمير العالَمي”. وقد شهدت الدول العربيّة الكثير من عمليّات التدمير المتعمّدة، فعلى سبيل المثال تمّ تدمير عددٍ من المَواقع الدينيّة والتاريخيّة في ليبيا بين عامَي 2011 و2012، فذَكر تقريرُ المُقرِّرة الخاصّة في مجال الحقوق الثقافيّة المقدَّم الى الجمعيّة العامّة للأُمم المتّحدة في 9 آب (أغسطس) 2016 أنّ العديد من الجماعات الأصوليّة والإرهابيّة، المدفوعة أيديولوجيّاً، كانت ضالعة بشكلٍ كبير في عمليّات التدمير المتعمّدة للتراث الثقافي في الدول العربيّة. وكان لتنظيم داعش الدَّور الكبير في تدمير التراث الثقافي والمَعالم والمَواقع التاريخيّة والأثريّة في كلٍّ من العراق وسوريا، الأمر الذي استدعى تدخُّل مجلس الأمن والجمعيّة العامّة للأُمم المتّحدة من أجل الحدّ من الاعتداء على التراث الثقافي وحمايته في المناطق التي استولى عليها داعش أو له نفوذ فيها، واعتبرَ التقرير أنّ تلك الأعمال هي انتهاكٌ للقانون الدولي بحسب ما أقرّه مجلس الأمن في وقائع الجلسة رقم 7907 في 4 آذار (مارس) 2017.

4. تهريب الآثار والاتّجار بهما؛ بحيث اعتبرَ مجلس الأمن في 4 آذار (مارس) 2017 أنّ تهريب الآثار والاتّجار بها هي عمليّات تقوم بها عصابات الجريمة المنظّمة وشبكات التهريب العابرة للحدود وكذلك الجماعات الإرهابيّة من خلال التنقيب غير المشروع للآثار والتراث؛ يجري ذلك عبر استغلال الأوضاع الأمنيّة المتفلّتة في كلٍّ من العراق وسوريا واليمن، علماً بأنّ هذه الاثار تُمثل مصدراً مهمّاً لتمويل أعمال الإرهاب التي تقوم بها الجماعات الإرهابيّة، وهنالك أسباب أخرى تُسهم في تنامي ظاهرة الاتّجار بالآثار تتمثّل بوجود سوق سوداء تُباع فيها الآثار المسروقة، والظروف الدوليّة المُساعِدة على الفوضى، وصراع المَصالح، وعدم وجود مؤسّسات فاعلة مختصّة بحماية التراث الثقافي.

5. التلوّث البيئي؛ إذ إنّ العديد من المَعالم الأثريّة والتاريخيّة، بما فيها التجمّعات السكّانيّة والحدائق التاريخيّة، تُعدّ من أكثر عناصر التراث الثقافي هشاشة، وبخاصّة تلك الموجودة بالقرب من الكتل الحضريّة والمُدن أو في ضواحيها القريبة، لأنّ ذلك يعرِّضها لمَخاطر متعدّدة مرتبطة بالتلوّث البيئي والتدهور في ظلّ غياب الصيانة والاهتمام.

6. غياب الوعي المجتمعي بأهميّة التراث الثقافي والمَواقع الأثريّة؛ مع ما يعنيه ذلك من عدم إدراك ضرورة الحفاظ على تلك المَواقع بوصفها تراثاً يمثّل هويّة المجتمع أو البلاد، حيث تتعرَّض مُدن أثريّة عدّة إلى شقّ شبكات طُرق داخلها أو حتّى إلى تجاوُزات المُزارعين، من خلال استغلال بعض المساحات للزراعة في المناطق الأثريّة كما يحصل في المناطق الأثريّة في مدينة سامرّاء في العراق، وما يعنيه ذلك من إلحاق أضرارٍ بآثار مهمّة تعود إلى الحقبة العبّاسيّة.

7. التحدّي الاقتصادي؛ ويتمثّل بنقص أو ضعف المَوارد الماليّة المخصَّصة لحماية التراث الثقافي؛ إذ إنّ عدداً من الدول العربيّة لا يولي تراثه الأهميّة التي يستحقّها، وذلك ينعكس على ما تخصّصه هذه الدول من موارد ماليّة وماديّة لتراثها، فضلاً عن عدم وجود آليّات لتوفير مَوارد جديدة من خلال تحديد مَصادر مُستحدثة وضخّها بشكلٍ عقلاني في عمليّات الحفاظ والصيانة والترميم وإعادة التأهيل التي تتطلّبها أشكالٌ عدّة من التراث الثقافي، وتمويل الجهات الرقابيّة المسؤولة عن حماية التراث بما يكفي من مَوارد .

8. التحدّي التشريعي؛ ويتجلّى بعدم توافُق الكثير من التشريعات العربيّة مع طبيعة التراث والمناطق التراثيّة وخصائصهما، فضلاً عن عدم التوافُق مع المواثيق والاتّفاقات الدوليّة الخاصّة بالتراث التي وقّع عليها عددٌ من الدول العربيّة.

9. التوسُّع السكّاني والعمراني؛ حيث إنّ النموّ السكّاني والتوسّع العمراني في المناطق التي تحتوي على مَراكز ثقافيّة تراثيّة أو في المناطق القريبة منها، وكذلك امتداد القرى والمناطق الريفيّة تجاه هذهِ المَراكز التراثيّة، يؤثّر سلباً عليها، ويشكِّل تحدّياً أمام الحفاظ عليها. وترى المنظّمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم، في تقريرٍ تقييميّ لسلسلة الدورات التدريبيّة لبناء القدرات العربيّة في مجال حماية التراث الثقافي غير المادّي للاعوام 2013-2015، أنّه من الضروري اتّخاذ الإجراءات المُناسبة لإيجاد نمطٍ توافقي يراعي نموّ المجتمعات من جهة، وضرورة حماية مَصادر التراث الثقافي من جهة أخرى.

10. المَخاطر والتحدّيات الطبيعيّة؛ مثل الأمطار والسيول والرياح والعواصف والهزّات الأرضيّة والصواعق وتغيُّر درجات الحرارة والرطوبة ونموّ النباتات الطبيعيّة…إلخ، والتي تؤثّر سلباً على التراث الثقافي، ولاسيّما الآثار التاريخيّة والمباني والصروح القديمة، بما يؤدّي إلى تآكلها أو حتّى إلى انهيارها وجرْفها.

من هنا تأتي الحاجة الملحّة إلى أن تأخذ الدول العربيّة والمنظّمات العربيّة المعنيَّة بالتراث على عاتقها مسألة حمايته، لما له من أهميّة في حياة الشعوب العربيّة وتاريخها لكونه جزءاً من هويّة هذه الشعوب، ناهيك بأهميّته الماديّة وما يوفّره من مردودٍ ماليّ عند استغلاله الأمثل في المَتاحف وغيرها.