ظلال الواقعية في أدب الخيال العلمي: رواية “صناديق الأعضاء البديلة” نموذجاً

ظلال الواقعية في أدب الخيال العلمي: رواية “صناديق الأعضاء البديلة” نموذجاً
Spread the love

بقلم: د. ريما الدياب |

سعى أدب الخيال العلمي إلى تغيير الواقع إلى الأفضل ، فقد عاينت الكثير من روايات الخيال العلمي السلبيات وأزمات المستقبل وهذا بدوره ساعد على تفادي الصدمات المستقبلية ، ومما لا شك فيه أن هذا العلم جعل الإنسان أكثر إدراكا لوضعه الصحيح في الزمان والمكان ، وجعل القراء ينجذبون إلى هذا العلم بحثا عن الكنز والمغزى .
وقد لامس الكاتب الدكتور طالب عمران الواقع بكل آلامه وأحزانه ، فوقف في رواية “صناديق الأعضاء البديلة” عند مجموعة من القضايا الواقعية ، وتحدث عن أزمة الأخلاق وضياع القيم الإنسانية ، وقد حدد الزمن عام 2006 والمكان هو مدينة دمشق ، و الجدير بالذكر أن أحداث الرواية لامست واقعنا في زمن الحرب اللعينة التي غزت بلادنا، ودمرت كل ما فيها.
وقد سلط الضوء على قضية تجارة الأعضاء البشرية ، فتفشى الفساد ووصل الأمر بمن باعوا ضميرهم أن يعمدوا إلى قتل الناس الأبرياء وسرقة أعضائهم، وهنا لابدّ أن نتساءل ، لماذا أصبحت الدول الضعيفة كأحجار الشطرنج تحركها الدول العظمى ؟ وكيف انتقل هذا التفكير إلى بلادنا ؟
أحداث الرواية :
بدأت الأحداث مع بطل الرواية هشام الشاب الذكي الطموح الفضولي الصحفي الذي مثّل قوة الخير ، فلم تطاله يد الفساد ، ولم يقبل المساومة على شرفه ، فهو إنسان شريف رفض المال بالطرق غير الشرعية ، وحاول كشف الحقيقة دون أن يأبه بمصيره .
طلبت أم هشام – وهي امرأة مسنة مازالت تؤمن بالأرض وعطائها – من ابنها أن يعتني بالأرض التي ترمز لها الحياة والعطاء، فما كان من هشام إلا السفر من دمشق إلى حمص ، وتطورت الأحداث عندما توقف الباص لبضع ساعات ، إثر انقلاب شاحنة ، وقد وفق الكاتب في تصوير المشهد فالقارئ يعيش أحداث الرواية ، ويشعر بأجواء السفر فشاهدنا الازدحام كيف انعكس على الركاب فسمعنا أحاديثهم ، وسمعنا أصوات الزمامير التي صدرت من كل صوب ، فخيم جو التوتر على المكان ، وبدا الانزعاج يرتسم على وجوه الجميع.
ويتجلى الخيال العلمي عندما نقلنا الكاتب من الواقع فقدّم لنا الحقيقة التي تتبدى في أغلب رواياته من خلال الأحلام ، فها هو هشام ينام للحظات وتظهر له حقائق خفية من خلال الصوت الذي ناداه في المنام وكان ينبعث من أحد الصناديق المقلوبة على الأرض ، وسرعان ما استيقظ وهو يشعر بصحة ما سمعه ، ففي قلبه يقين أن ما سمعه من تأوهات هو حقيقية ، لأن أحلامه لا تكذب ، فخرج مسرعا من الباص ليتجه إلى الشاحنة بعد أن سمع في الحقيقة صوت تأوهات لم يعلم مصدرها بالتحديد ، وهنا ظهرت شخصية عفيف مرافق سائق الباص، وقد حاول عفيف إبعاد هشام عن الصناديق ، وهذا الأمر زاد قلقه وأدخل الشك في قلبه ، فشعر أن عفيف يحاول إخفاء أمر ما ، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى ملامسة الواقع عندما سلط الكاتب الضوء على قضية انتشرت في بلادنا ، وكانت سببا من أسباب الفساد وانتشار الفوضى ، وهي قضية فقد الأمانة عند المسؤولين وغياب الضمير الإنساني ، الذي أودى بالمجتمع إلى الحضيض ، ومثّل عفيف الشخص الخبيث ، فما يهمه المال ، فباع ضميره ومهنته مقابل المال ، وحاول ساعيا لكسب النفوس الضعيفة ، والتلاعب بها ليصل إلى مساعيه.
أما ناصر وهو مساعد ضابط الشرطة ، شخص فاسد باع مهنته مقابل المال ، على الرغم من أن مهنة الشرطة ترمز وتمثل أعلى وأنبل المهن في الدولة ، فهو مساعد في الشرطة ، ومن الواجب أن يمثل الأمن والأمان، ويسعى إلى الحفاظ على الشعب وعلى ممتلكات البلاد ، وقد حاول عفيف تقديم رشوة لناصر ليتعاون معه على إخفاء الحقيقة إلا أن هشام بذكائه وعلمه فضح الأمر، وحرض الضابط المسؤول على معرفة الحقيقة .
وعندما بدأت خيوط الحقيقة تتجلى حاول ناصر مساعدة عفيف ، فأبطأ عمليات التفتيش ، ولكن هشام استدرك بدهائه الحقيقة ، فلم يخفَ هذا الأمر والأساليب الكاذبة عنه ، وتابع مصدر الصوت إلى أن عرف مكانه ، فكسر قفل الصندوق، وهنا تجلت الحقيقة وبدأ الحل عندما وجد امرأة مقيدة في داخله ، هي التي فضحت الجريمة .
وريحانة امرأة مظلومة ، وقعت بشر أفعال عفيف بعد أن عرفت حقيقته فحاول قتلها ، كانت ريحانة تعمل في مكتب لاستقدام الخادمات وهي ظاهرة انتشرت في بلادنا بكثرة ، إلا أن عفيف كان يستقدم الخادمات بغية التجارة بالأعضاء ، فما أن تصل الخادمة إلا وتختفي، فيحاول إخفاء الأمر بتهمة أنها ماتت ، أو يلجأ إلى إخفاء الحقيقة بطريق المال ، فيشتري النفوس الضعيفة مقابل أن يخفوا الأمر معه، وهذ ما فعله مع مدير المكتب الذي أعمى بصره وبصيرته بالمال، فلم يعد يأبه لأمر الناس .
وتعقدت الأمور عندما كانت ريحانة برفقة والدتها في المشفى ، فسمعت حوارا بين الطبيب وعفيف إذ كان يساومه على بيع الأعضاء البشرية ، وهنا سلط الكاتب الضوء على كارثة حقيقية ، فعندما يصل الأمر بأصحاب المهن الشريفة أن يبيعوها مقابل المال وهنا تكمن الفجيعة ، وقد وصل الفساد إلى مهنة الطب وأخلاق الأطباء ، فكان عفيف يقايض الأطباء الفاسدين على مرضاهم ليشتري الأعضاء ، والعيون بشكل خاص ، ويتم زرع العيون الزجاجية بدلا منها ، وبيع الكلى مقابل مبالغ ضخمة من الأموال .
سمعت ريحانة حديثه مع الطبيب ، وعندما كشف أمرها قام بخطفها، ووضعها في الصندوق ، إلا أن حسن حظها ترافق مع وجود هشام في المكان ‘ فبفضله كشف الضابط المسؤول الحقيقة ، وعندها حاول عفيف وناصر الهروب ، ولكن تم العثور عليهما .
تابع الضابط القضية ، وفتح الصناديق والشاحنات ، فوجدها محملة بالأعضاء البشرية ، ولعلنا هنا نقف عند قضية هامة انتشرت في بلادنا وهي قضية الرشوة التي تفشت حتى وصلت لرجال الدوريات والتفتيش ، فقد مرت الشاحنات على الحواجز جميعها دون تفتيش ، فقد باع رجال الحواجز مهنتهم مقابل المال ، وهذا الأمر كان من أهم الأسباب التي أسهمت في تطور الحرب فقد هربت الأسلحة ووصلت إلى أيدي العديد من الناس الذين عبثوا بحياة الأبرياء ، فضلا عن المخدرات والحشيش والعديد من الأمور التي دخلت بلادنا بسبب فساد وموت ضمير من واجبه أن يحمي البلد ويدافع عن أبنائه .
استخدم الكاتب أسلوب الالتفات من السرد إلى الحوار في أغلب الرواية مما أدى إلى جذب القارئ لمتابعة الأحداث بدقة ، وهذا ما جعلنا نعيش أجواء الرحلة بتفاصيلها بما فيها من أصوات الركاب وضجيج السيارات .
لقد لامس المؤلف الواقع من أهم جوانبه ، فركز على أسباب تدهور الأوضاع بشكل غير مباشر ، وبوريقات قليلة عكس بروايته موت الضمير عند أصحاب المهن المرموقة ، كالضابط الذي يقبل الرشوة، والطبيب الذي يبيع الأعضاء البشرية مقابل المال .
وفي النهاية لابدّ أن نشير إلى أن شخصية عفيف مثلت شريحة غير قليلة في المجتمع فتلاعب بضعاف النفوس وحاول شراء أصحاب المهن الشريفة بالنقود، وهذا من أسباب تدهور بلادنا ، فحين يبيع الشرطي كرامته والطبيب مهنته ، فلا خير ولا أمل في العيش في بلاد تفشى فيها الفساد من كل جوانبه ، وصوّر الكاتب شريحة من الرجال الذين تحركهم القوى الخارجية فيقتلون الناس ليهربوا جثثهم ، وها هي حال مجتمعاتنا الفقيرة التي استشرى فيها الفساد لينال من أبنائها الضعفاء ويدفع الشريف والنزيه ضريبة عناء وجهل النفوس الضعيفة التي تباع وتشترى بالمال .