الزواج وترتيباته في بلاد الأندلس وفتاوى ابن رشد الفقيه

الزواج وترتيباته في بلاد الأندلس وفتاوى ابن رشد الفقيه
Spread the love

بقلم: د. آية الجندي _ كاتبة من مصر/

نقلت لنا فتاوى ابن رشد الفقيه صوراً من حياة عامة الناس من الشعب الأندلسي – خلال عصري ملوك الطوائف والمرابطين – ، هؤلاء المنسيين – كغيرهم من الشعوب – من ذاكرة مؤرخي تلك القرون، هؤلاء المؤرخين الذين جعلوا سجلاتهم التاريخية حكراً على طبقات الملوك والحياة السياسية والحروب، ولأن التاريخ دائماً ما يجد طريقه للظهور على سطح الأحداث، فقد ظهرت أهمية كتب النوازل والفتاوى كنوع من السجلات التي احتفظت بين ثناياها بالعديد من الوقائع الاجتماعية والاقتصادية التي تمس الطبقات المنسية والتي يمكن اعتبارها مروية بألسنتهم.

فالفتاوى والنوازل عبارة عن مشكلة وقع بها أحد الأشخاص فوجهها إلى الفقيه أو القاضي بصيغة سؤال عن حلها الشرعي، لذا يمكن اعتبارها مرآة لحياة المجتمع آنذاك، فلم يكتبها شخص محاولاً تحسين صورته أو صورة شخص آخر، أو أنها سُجلت للتدليس على حقيقة ما، هي فقط مشكلة دنيوية نُقلت كما هي للفقيه ليبين فيها حُكم الشرع، فحفظت لنا صوراً وأشكالاً من حياة المجتمع.

وقد تعددت الفتاوى والأسئلة التي وردت على ابن رشد الفقيه بخصوص أمور الزواج وما يتعلق به من اجراءات، حتى أننا إن جمعنا هذه الفتاوى مع بعضها يمكن أن نخرج من خلالها بصورة واضحة لما كان عليه ترتيبات واجراءات الزواج آنذاك.
بالطبع ليس هناك اختلاف في الاجراءات الشرعية للزواج من تقدم الرجل لأهل الفتاة أو المرأة بطلب الزواج بها، فإن أتت الموافقة فننتقل إلى مرحلة الاتفاق على المهر والهدايا وما سيقدمه لها، ويتم عقد الزواج بحضور الشهود لدى صاحب المناكح – ووظيفته تقابل وظيفة ” المأذون ” حالياً – حيث يتم عقد الزواج بين ولى الفتى وولى الفتاة نظراً لأن معظم الزيجات كانت تتم بين من هم في سن الوصاية، فمتوسط سن الزواج بناءاً على ما ورد في الفتاوى هو الرابعة عشر أو الخامسة عشر، ويكون الولي هو الأب فإن كان متوفياً فيكون الوصي على الأبن أو الابنة من أحد أفراد العائلة سواء الأخ أو العم أو الخال، فإن كان الوصي امرأة فتقوم بتكليف من يعقد الزواج كولي، على أن زواج القُصر لم يُترك لأهواء الأوصياء في الغالب، فقد كان الوصي يخضع لمُشرف عليه، حيث يمنعه من تنفيذ أي أمر من زواج أو غيره دون استشارته.

ولم يخل زواج القُصر من المشاكل – والأيتام على وجه الخصوص- فكان أحياناً يتم تزويجهم لمن لا يرغبون فيهم، وكان يصل الأمر إلى القضاة للمطالبة بفسخ العقد، حتى أن البعض كان يهرب بعد عقد الزواج.

المهر والشوار:
المهر أو كما ورد ذكره في الفتاوى “السياقة” وكان يختلف من طبقة اجتماعية إلى أخرى، حيث اختلفت قيمة المهر باختلاف الوسط الاجتماعي واختلاف البيئات، ففي المناطق الصحراوية لم يكن المهر مكلفاً، وبشكل عام كان المهر في الأندلس أغلى قيمة مما ساد في المغرب الأقصى.
واستناداً للفتاوى نجد أن المهر في طبقة الخاصة كان يتضمن أملاكاً سواء منزل أو عقار أو أراضي بالإضافة إلى ما يمنحه الزوج للزوجة من أموال، فهناك من كان يمنح زوجته نصف أملاكه في قرية ما، أو يمنحها منزل وثلث أرضه ومحصول الأرض، أو يتقدم لها بمنزل ومال، وأحياناً كان يتضمن المهر بالإضافة إلى الأرض عدد محدد من المواشي، وهناك من كان يعقد الزواج على أن يقوم الزوج ببناء منزل في مكان يحدده هو على أن تكون ملكية البُنيان مناصفة بينهما.
وكان يخضع المهر للعُرف ففي بعض الأماكن كان المهر عبارة عن أملاك يمنحها الزوج لزوجته دون تحديدها سواء تحديد نوعها أو مساحتها أو قيمتها، وهذا النوع من المهور كان يخلق العديد من المشاكل بعد ذلك، خصوصاً إن قرر الزوج بيع بعض أملاكه.
أما الطبقات الأدنى فكان الأب أحياناً يُسقط جزء من المهر عن زوج ابنته إن كانت حالته المادية ضعيفة، وذلك رفقاً به وإحساناً إليه، حتى أن البعض كان يسمح لزوج ابنته بالسكن معه بمنزله، لذا فلم تكن قيمة المهور مبالغاً فيها دائماً، وإن كانت المهور العالية كانت تقتصر على طبقات الخاصة فقط.

أما الشوار وهو ما يتم تجهيز الفتاة به بواسطة والدها فكان يتضمن الثياب والحلى وما يتجهز به المنزل، وقد اختلف شوار الفتاة طبقاً للأعراف المتبعة من مدينة لأخرى، ففي مدينة شلب Silves كان الأب يقوم بتجهيز ابنته بجهاز يساوى مقدار المهر الذى ساقه لها زوجها، وكانت عادتهم وهى عادة قديمة ومتوارثة، وفى مناطق أخرى من بلاد الأندلس كان العُرف أن يخرج ضمن جهاز الزوجة ثياب لزوجها، وفى بعض المناطق كان يجهز الأب ابنته بأكثر من قيمة المهر.

أما المشاكل التي ارتبطت بالشوار فتتلخص في أن ينكر الزوج أنه استلم شيئاً من زوجته أو من والدها، أو أن يشتكى الأب لاسترداد الثياب التي كان قد منحها لزوج ابنته من قبل مُدعياً أنها لم تكن عطية ولا هبة، لكن الأمر الأغرب هو أن يخشى الأب من زوج ابنته فيتقدم للقاضي يطلب منه بقاء ما جهز به ابنته مما يزيد عنه مهرها عنده، وهذا بدافع الاسترابة من الزوج أو خشية استغلاله لشوار ابنته، وكان القاضي يوافق إن كان الأب أميناً، أما إن كان عكس ذلك فيقوم القاضي بتكليف شخصاً أميناً ويترك عنده ما خيف عليه من الضياع أو التلف وذلك حفاظاً لحقوق الزوجة، لكن لا يمكننا أن نقول أن هذا الأمر كان ناجحاً بنسبة كبيرة ذلك لأن الفتاوى تذكر أن القاضي ائتمن بعض الأشخاص على ثياب لبنات خيف عليها من الضياع أو التلف، فباعوها ولم يقدر القاضي على فعل شيء أو حتى على عقابهم نظراً لفقرهم.

شروط المرأة في عقد الزواج:
لقد لجأت الأندلسيات إلى وضع شروط في عقد زواجهن من أجل الحفاظ على حقوقهن وللمزيد من الاطمئنان، حيث أن هذه الشروط إن لم تُنفذ من قبل الزوج فمن حق الزوجة الطلاق، لكن بعض الشروط كانت تسبب خلافاً شرعياً بين الفقهاء إن حدث وتطلق الزوجان.
وقد تعددت الشروط التي اشترطتها النساء في الأندلس تبعاً لأهوائهم الشخصية أو مكانتهم الاجتماعية، فنجد مثلاً “شرط الخدمة” فالنساء ذوات الأقدار لا يمتهن الخدمة، لذا فلها أن تلزم زوجها بإحضار من يقوم بمثل تلك الاعمال، وذلك إن كان الزوج ميسور الحال، أما لو كان عكس ذلك فليس عليه شيئاً.
ومن أشهر الشروط التي كانت تشترطها الزوجة على زوجها هو شرط “المغيب” أي إذا غاب الزوج عنها فترة محددة متصلة فلها أن تُطلق نفسها عند الحاكم، بيد أن في بعض الأحيان كان الزوج هو من يشترط على نفسه شرط المغيب، فتُشير إحدى الفتاوى إلى رجل اشترط على نفسه ألا يغيب عن زوجته أكثر من ستة أشهر، فغاب ثمانية فأرادت الزوجة الأخذ بالشرط وتطليق نفسها عند الحاكم.
أما الشرط الذى تسبب في بعض الأحيان في الخلافات بين الفقهاء، فهو شرط الزوجة على زوجها أن لا يتزوج غيرها أو يشترى جواري طوال مدة زواجهما، وهناك من كن يشترطن أسماء نساء بأعينهن، وفى أحيان أخرى كان الرجال هم من يشترطون ذلك طوعاً دون طلب من الزوجة، فنجد من اشترط على نفسه لامرأته أن الداخلة عليها بنكاح طالق أو لو تزوج فلانة فهي طالق، وهناك من يضع لنفسه الشرط ثم يعود ويرغب في الزواج من أخرى، فمنهم من يتزوج بالفعل، ومنهم من كان يعتقد أنه إن طلق زوجته وردها مرة أخرى فإن الشرط يسقط، فكانت إجابة ابن رشد على هذا أنه كلما طلق زوجته وأعادها تكرر الشرط أو اليمين كذلك.
وهناك كذلك من يشترط على نفسه أنه لو اشترى جارية طوال حياة زوجته، أو وصلت إلى مِلكه بأي شكل من الأشكال سواء صدقة أو هبة أو اقتضاء دين فإنها حرة لوجه الله، وهذا الشرط من الشروط الطريفة حيث أنه إذا تطلق الزوجان وقام الزوج بشراء جارية فإنه من حق الزوجة – بعد طلاقها – أن تشتكيه لدى القاضي بما أشهد على نفسه قبل زواجهما.
والشرط الأخير الذى كان يوضع في عقد الزواج هو اشتراط الزوجة زيارة أهلها، خصوصاً إن كانت تسكن في مكان يبعد عن مكان سكنهم، وخشت أن يمنعها زوجها من زيارتهم لبُعد المسافة.
إن ما أوردناه في شكل وترتيبات الزواج لدى المجتمع الأندلسي يجعلنا نهتدي إلى كم كان مجتمعاً يحاول الحفاظ على حقوق المرأة، وكم كانت المرأة تحظى بمكانة تليق بها في عصر يبعد عن عصرنا هذا بمئات القرون، حتى أنهم في أعرافهم حفظوا للمرأة حقوقها، أعتقد أننا إن قارنا ترتيبات الزواج والأعراف التي نتبعها في وقتنا الحالي بما كان يقوم به الأندلسيين لرجحت كفتهم بالفعل.

قائمة المصادر والمراجع:
– ابن رشد: الفتاوى، تقديم وتحقيق: المختار بن الطاهر التليلي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1، 1987م.
– أحمد محمود حمد خير الدين: الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالمغرب الاسلامي من خلال فتاوى البرزلى (جامع مسائل الأحكام)، رسالة دكتوراه، جامعة بنها، 2012م.
– البرزلي: فتاوى البرزلى جامع مسائل الأحكام لما نزل من القضايا بالمفتين والحكام، تحقيق: محمد الحبيب الهبلة، دار الغرب الإسلامي، ط1، 2002م،
– سلوى عبدالخالق علي أحمد: الأوضاع السياسية والاقتصادية وأثرها على المجتمع الأندلسي في عصري المرابطين والموحدين (دراسة تاريخية مقارنة)، رسالة دكتوراه، جامعة القاهرة، 1994م.
– الونشريسي: المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب، تخريج: محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1985م.