ماذا تبقّى من أفكار فولتير وروسّو وتولستوي؟

ماذا تبقّى من أفكار فولتير وروسّو وتولستوي؟
Spread the love

شجون عربية _

بقلم: د. عبد العظيم محمود حنفي _ باحث وأكاديمي من مصر/

في خلال القرن الثامن عشر، حدثَ تحوّلٌ في الفكر الأوروبيّ، من الاعتقاد بأنّ أمور الدنيا تسير على أحسن منوال، وأنّه ليس في الإمكان أبدع ممّا كان، إلى الاعتقاد بأنّ أمور العالَم ليست على ما يرام، وأنّ الوجود حافل بالمُتناقضات والمساوئ والعيوب التي تُثير الشكوك، والتي لا يُمكن تسويقها والاطمئنان إليها إلّا بشيء من التغافُل المتعمَّد أو المُغالَطة المكشوفة. وقد بدأ هذا التحوّل رويداً رويداً حتّى قويت تلك النزعة الثائرة المتمرّدة الناقمة المتبرّمة، ووجدت في فولتير وروسّو أقوى مُعبّرَين عنها، وأبلغ ناطقَين بلسانها، وأعظم حاملَين لعِلمها.

كان أنصار هذه النزعة مُجمِعين على وجود العلّة وفساد الأمور، ولكنّهم كانوا يختلفون اختلافاً كبيراً في تشخيص المرض وتحديد مَوطن الداء، وقد ساء فولتير ما رآه ولمسه من غباء البشر، وسقْم تفكيرهم، وقسوتهم، وظلمهم، وطغيانهم، وعدم اكتراث الطبيعة بأحوال البشر. وتشاؤمه وسخريّته ينجليان في أروع صُورهما في روايته العظيمة التي سمّاها “كانديد” أو المُتفائل، وفيها أَمعنَ في السخرية من فكرة أنّ هذه الدنيا أحسن دنيا مُمكنة ولكنّه ظلّ مع ذلك واثقاً بقوّة العقل مؤمِناً بالحضارة. وكان موقف فولتير في مطالع حياته من مسألة وجود الشرّ في الدنيا مثل موقف بولنجبروك والشاعر الإنكليزي بوب، وعندهما أنّ الاعتقاد بكمال الله ينفي وجود الشرّ، وأقوى الأدلّة على وجود الله هو نظام الطبيعة البديع وما فيها من توافُق وانسجام وتجاوُب واتّزان وبهاء وجمال، ولا يمنع ذلك وجود نقائص في الإنسان لأنّه محدود فانٍ، ولكنّ تفاؤل فولتير طرأ عليه تغييرٌ بعد استهدافه لصدمة عنيفة. فقد كانت حياة فولتير نفسها معركة طويلة في مُكافحة الظلم والغباء والتعصّب والقسوة والوحشيّة، وقد سُجن في الباستيل ونُفي من باريس. أمّا روسّو فقد ذهب مذهباً آخر، فرأى أنّ الله خير عادل، وأنّ الإنسان في الأصل، وكما خلقه الله، هو كذلك خير صالح، وأنّ الشرّ ليس في الطبيعة، وإنّما هو شيء غير طبيعي، وأنّ سبب هذا الشرّ هو الحضارة. وقد لعب هذان الرجلان دَوراً مُهمّاً في التفكير الأوروبي والسياسة الأوروبيّة، وأثَّرا فيهما تأثيراً بعيد المدى عميق الجذور. فالجمع الغفير من الناس الذين احتفلوا سنة 1778 بعودة فولتير إلى باريس بعدما غاب عنها ثلاثين عاماً هُم الذين اقتحموا الباستيل في سنة 1789، وكان زعماء الثورة الفرنسيّة من المتأثّرين بكِتاب “العقد الاجتماعي” الذي كتبه روسّو، وكانت الملكة كاترين الروسيّة من المُعجبات بفولتير، ولكنّها لمّا وقفت على الاتّجاه الحقيقي للأفكار الجديدة، أمرت بإبعاد تمثال فولتير النصفي الصغير من حجرتها، وهو احتياط من القيصرة المُستنيرة والسياسيّة الخطيرة لم يُجْد شيئاً، ولم يستطع بطبيعة الحال أن يغيّر مجرى الحوادث. فقد كان الثائرون في روسيا من المتأثّرين بآراء فولتير وروسّو، وحاولوا أن يصنعوا في موسكو وبتروغراد ما صنعه الفرنسيّون في باريس.

وكانت حياة روسّو حياة عجيبة مُتناقضة، فقد كان رجلاً شديد الحساسيّة وكانت شكواه من الحضارة مُشابهة لشكوى ديوجين، فهو طاف في شوارع باريس وهو يحمل مصباحاً في رائعة النهار ليبحث عن رجل صادق الرجولة، ولكنّه لم يرَ إلّا أقنعة وأشباحاً، ولم يُصادف إلّا عواطف كاذبة، وأدباً مزيّفاً، وطلاءً وتمويهاً، وكذباً ومُغالَطة، وجبناً ورياءً، وادّعاءً وعبوديّة وضعة؛ وفي مثل ذلك الجوّ الفاسد تنبت الرذائل، ويعمّ الفساد، ويكثر الفجور، فلا صداقة خالصة نقيّة، ولا تقدير ولا احترام، وإنّما يعرف الناس في أمثال هذه الأحوال سوء الظنّ والخيانة والغدر والملق، وكلّ ذلك وراء ستارٍ رقيق من التأدّب الكاذب والتلطّف المسموم. وقد عزا روسّو هذا الفساد الذي أصاب الطبيعة الإنسانيّة إلى انتشار الفنون والعلوم، وذهب إلى أنّه كلّما ازدادت الفنون والعلوم انتشاراً، ازدادت الطبيعة الإنسانيّة فساداً والتواء، ومصر واليونان وروما ودُول الشرق لم تنزل من عليائها ولم يدبّ فيها الضعف وتعصف بها الحوادث إلّا حينما تحضّرت واستغرقتها الحضارة. أمّا شعوب التاريخ التي عُرفت بالخشونة والصلابة مثل قدماء الرومان والحثّيّين والألمان، فقد ظلّوا في التاريخ أمثلة للطبيعة الإنسانيّة الصافية النقيّة، ولا بدّ أن يُفسدَ العِلمُ والفنُّ الأخلاقَ لأنّهما يولدان في الفساد. فعِلم الفلك يولِّد في الاعتقاد بالخرافات، وفنّ المُرافعة والمُحاماة ينشأ في جوّ الطموح والمَطامع والكراهة والملق والخداع والغشّ، والعلوم الطبيعيّة سببها حبّ الاستطلاع والغرور المزهوّ، ولَو لم يكُن هناك ظلم لما كانت هناك حاجة إلى القضاء، ولو لم يكُن هناك طغاة وحروب ومؤامرات لما كانت هناك حاجة إلى كتابة التاريخ.

ولمّا كانت الفنون والعلوم من نتائج الغرور والزهو والبطانة والترف، فإنّ الإبقاء عليهما والإسراف في احترامهما خطر كبير وشرّ مستطير، لأنّه يُنشئ حضارة قائمة على عبادة الألفاظ المعسولة المنمّقة، والحركات الرشيقة، والعادات، وينسينا تقدير صنائع البطولة والإقدام، ومزايا القلوب الكبيرة المُخلصة، ويرجو روسّو الله القادر على كلّ شيء أن ينقذ أمّته من شرّ الاستنارة والفنون والعلوم، ويردّ عليها الجهل والبراءة والفقر، فإنّها مقوّمات السعادة وراحة البال وصفاء النَّفس. ولا يعجب الإنسان حين يتأمّل كلمات هذا الرجل أنّها كانت من بواعث الثورة الفرنسيّة. ولكنّ هناك فرقاً مهمّاً بين روسّو وفولتير، وهو أنّ فولتير على الرّغم من عجزه عن إيجاد دليل على العناية الإلهيّة في أحوال الدنيا، لم يفقد مع ذلك أمله في الحضارة واعتقاده بالاستنارة.

أمّا روسّو فذهب إلى النقيض؛ فقد ظلَّ مُحافظاً على عقيدته الدينيّة واثقاً بالله، مُكبّراً للطبيعة، متغنّياً بجمالها ومفاتنها، مُرجعاً كلّ العيوب والنقائص والآفات إلى الحضارة التي وَجد فولتير في ظلالها راحة الإنسانيّة. فروسّو على تفاؤله يائس من الحضارة، وفولتير على تشاؤمه شديد التعلّق بالحضارة يأمل منها التقدّم والسموّ، والعجيب أنّ روسّو يحتقر عمل الإنسان ليكبّر عمل الله ويُمجّده، ولكنّه في الوقت نفسه يؤثِر إنسان الغابات على الإنسان المتحضّر، أي أنّه يؤثر وراثتنا الحيوانيّة على وراثتنا الثقافيّة الحضاريّة. ومن ثمّ دعوة روسّو الناس إلى العودة إلى الطبيعة، وكُتبه المشهورة تتناول هذا الموضوع من زوايا مُختلفة. فكتابه عن العقْد الاجتماعي يوضح أنّ الإنسان قد وُلد حرّاً، ولكنّه في كلّ مكان يجرّ سلاسل الأقياد، وعلاج ذلك هو استرداد حريّته الطبيعيّة جهد الطاقة، وكِتابه المسمّى “إميل” يدعو إلى إنماء المواهب الطبيعيّة عن طريق التربية لتظهر طبيعة الطفل كما خلقها الله. وأفكار روسّو – على ما فيها من مُبالغات وعيوب – أثَّرت في التفكير الغربي تأثيراً شديداً، وتخرَّج عليه كثيرٌ من الكُتّاب والمُفكّرين، وربّما كان في طليعة هؤلاء الكاتب الروسي العظيم ليو تولستوي. ففي سنة 1878، أي بعد موت فولتير وروسّو بمائة سنة، كان تولستوي البالغ من العمر خمسين عاماً قد تبرَّم من الحياة الناعمة المُترفة والزاهرة، وكَره الشهرة الأدبيّة، وأصل الشرّ في رأي تولستوي هو استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وهذه الرغبة الملحّة في تأكيد النَّفس وفرْض الشخصيّة وإمتاعها وإعطائها سؤالها في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والحياة الثقافيّة هو اللّون الغالب على الحضارة.

ويحمل تولستوي حمله شعواء على الحضارة الحديثة من نواحيها المُختلفة، ويكشف عمّا بها من زيف وبطلان وفساد، وينقد أدبها وثقافتها نقداً لاذعاً نافذاً. أخذ تولستوي يُحارب قوى الظلمة المخيّمة في نفوسنا، ويُقاوِم العنف والكبرياء والشهوة والميل إلى الظلم والاستغلال. لقد تغيّرت أحوال العالَم، ولكنّ سَيْر الحضارة واتّجاهاتها في العصر الحاضر واستمرار الحروب والمُشكلات وغياب السلام واستمرار الفقر والجهل في بقاع ٍعديدة من العالَم، لا يجعلنا نرفض في يُسر وسهولة وثقة واطمئنان شكوك روسّو وتولستوي بالحضارة.