ترسيم الحدود البحريّة .. واستثمار “النفوذ” الدوليّ

ترسيم الحدود البحريّة .. واستثمار “النفوذ” الدوليّ
Spread the love

شجون عربية _

بقلم: عدنان كريمة _ كاتب ومحلل اقتصادي من لبنان/
تُواجِه مُفاوضات ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل صعوبات عدّة، تحول دون توقيع أيّ اتّفاقيّة لاستثمار النفط والغاز في البلوكات المُتنازَع عليها في الجانبَين، على الرّغم من مَساعي الوسيط الأميركيّ التي تَصطدِمُ بالشروط المُتباعِدة التي يضعها الطرفان. وإذا كان لبنان بحاجة مُلِحَّة لاستثمار ثرواته لحلّ مُشكلاته الماليّة والاقتصاديّة، فإنّ إسرائيل أكثر حاجةً لتحقيق استثمارت مُتقدِّمة، وخصوصاً أنّ الأمر مُتعلِّق بشركاتٍ دوليّة بقيادة أميركيّة ستُنفِق أموالاً طائلة، وهي غير مُستعدَّة لتوظيف أموالها في مَناطقَ مُتنازَع عليها. ومع التقدُّم الروسيّ في استثمار النفط والغاز في سوريا، وتعاونها مع تركيا، ودخول شركاتٍ روسيّة عملاقة باستثمارات في لبنان، يدخل النِّزاع حول ترسيم الحدود في صراعٍ “جيوسياسيّ” لاستثمار “النفوذ” الدوليّ.
إنّ احتمال وجود النفط في لبنان ليس جديداً، بل يعود إلى ما قبل 97 عاماً. وتعود بنا الذاكرة إلى العام 1960 عندما دخلَ وزير الأشغال إلى مَكتب رئيس الجمهوريّة آنذاك اللّواء فؤاد شهاب وقدَّم له ملفّاً وصفه بأنّه سيرفع لبنان إلى مصافّ الدول “الثريّة”. وبعدما استفسَرَ الرئيس عن محتويات الملفّ، أجابه الوزير بأنّه وَجَدَهُ في أدراج مَكتبه، ويتضمَّن دراسة مُفصَّلة أعدَّها المُحتَلُّ الفرنسيّ عام 1923، لما يَختزنه لبنان برّاً وبَحراً من ثرواتٍ نفطيّة ومَعادِن ثمينة. والملفّ المذكور، يتضمّن أيضاً دراسات ووثائق وخرائط. وعلى الرّغم من أهميّة هذا الملفّ الذي يُمكن أن يَنقل البلد إلى دولة مُنتِجة للنفط، فقد أعاده الرئيس إلى الوزير قائلا: “إحفظْه في أدراج مَكتبكَ”، لكنّ الوزير لم يُعجبه الكلام، واضطرّ لحفْظه على مَضض، وبعد 10 دقائق تمنّى على الرئيس أن يشرح له الأسباب، فأجابه فخامته بابتسامةٍ نادرة “إذا فَتحنا الملفّ، لن نكتفي بعدوٍّ واحد (هو إسرائيل)، بل ستكون دولُ العالَم كلّها أعداءً لنا”.
من هنا تبرز أهميّة السؤال المطروح، حيث يُعيد التاريخ نفسه: هل ما يجري اليوم على الساحة اللّبنانيّة هو نتيجة لفتْح ملفٍّ أَعدَّه المُحتَلُّ الفرنسي عام 1923؟…
إذا كانت “لعنة المَوارِد” موثَّقة تاريخيّاً في بعض الدول الغنيّة، حيث أدّى إنتاج النفط والغاز إلى تراجُع الأداء الاقتصادي لديها، وبروز مشكلاتٍ سياسيّة واجتماعيّة مُتعدِّدة، فيبدو أنّ هذه اللّعنة ضَرَبت لبنان باكراً قبل اكتشاف أيّ مَوارِد وتحقيق أيّ ثروة. ففي العام 2018، ومع توقيع الحكومة عقود النفط الأولى، بَرزت توقّعات إيجابيّة كبيرة. وعندما أَطلقت وزيرة الطّاقة السابقة ندى البستاني بدء أعمال حفْر أوّل بئر في البلوك رقم 4 الواقع في منطقة البترون شمال العاصمة بيروت، وسلَّمت ترخيصاً رسميّاً بذلك لإئتلاف ثلاث شركات (توتال الفرنسيّة، وإيني الإيطاليّة، ونوفاتيك الروسيّة)، بشَّر رئيسُ الجمهوريّة ميشال عون اللّبنانيّين بقرب دخول لبنان نادي الدول المُنتِجة للنفط. وعلى هذا الأساس سارَعَ الشباب اللّبناني الذي يحلم بمَسارٍ مِهنيّ مريح، إلى التوجُّه نحو الاختصاصات الجديدة المُتعلِّقة بالنفط، والتي أَطلقتها مؤسّساتٌ تعليميّة مُتعدّدة، للاستفادة من الشروط التي فَرَضَت على الشركات بأن يكون 80% من موظّفيها على الأقلّ من اللّبنانيّين.
ولكنْ في 28 نيسان (أبريل) الماضي جاءت خَيبات الأمل بإعلان شركة توتال، بوصفها المُشغِّلة للائتلاف العالَمي، إنهاء حفْر البئر في البلوك رقم 4 على عُمق 4076 متراً، والتي عبرت طبقة الأوليغو – ميوسين الجيولوجيّة المُستهدَفة بالكامل، وأنّها لاحظت آثاراً للغاز، الأمر الذي يؤكِّد وجود نظام هيدروكربوني، غير أنّه لم يتمّ العثور على خزّانات في تكوين تمار الذي شكَّل الهدف الرئيسي لهذه البئر الاستكشافيّة. ولَفَتَت الشركة إلى أنّه سيتمّ إجراء دراسات لفهْم النتائج وتقييم احتمالات الاستكشاف عن كثب. لكنّ ذلك قد يؤجِّل الحفْر في البلوك رقم 9 الواقع في جنوب لبنان والذي كان مُقرَّراً قبل نهاية العام الحالي، مع العِلم أنّ حفْر كلّ بئر يُكلِّف الشركات نحو 60 مليون دولار، والعقد لا يُلزِمها في السنوات الثلاث الأولى سوى بحفْر بئرٍ واحدة، ولاسيّما في وقتٍ تُعاني فيه من خسائر كبيرة نتيجة تراجُع الأسعار في الأسواق العالَميّة.
ضغوطٌ دوليّة
على الرّغم من المَوقِف السلبي لشركة توتال، أكَّد الرئيس ميشال عون تفاؤله بوجود الغاز في البئر الأولى للبلوك رقم 4، مُبرِّراً مَوقف الشركة بأنّه يعود لضغوطٍ دوليّة. وأوضَحت مَصادِر سياسيّة أنّ هذه الضغوط تتعلّق بالصراع القائم على النفوذ “الجيوسياسي” إقليميّاً ودوليّاَ، وخصوصاً بعد تقدُّم الشركات الروسيّة في مجال استثمار النفط والغاز في سوريا، وحصول بعضها على امتياز استثمار مُنشآت النفط في طرابلس شمال لبنان، واشتراك بعضها الآخر في امتياز التنقيب واستخراج الغاز والنفط في البلوك رقم 9 في الجنوب، فضلاً عن البلوك رقم 4. في حين يُلاحَظ في المُقابل إبعاد أو ابتعاد الشركات الأميركيّة، حتّى أنّ الحكومة اللّبنانيّة أجَّلت مرّاتٍ عدّة الموعد النهائي للاشتراك في دَورة التراخيص الثانية للشركات العالَميّة، على أمل السعي لجذْب مَزيدٍ من الشركات لتعزيز المُنافَسة، وتكوين عددٍ من التحالُفات، خلافاً لما حصلَ في الدورة الأولى التي شاركَ فيها تحالُفٌ واحدٌ فقط، لكنْ من دون فائدة. هذا مع العِلم أنّ بعض الشركات الأميركيّة وأهمّها شركة “شيفرون” العملاقة تتولّى استثمار حقول الغاز البحريّة في إسرائيل، وقد استحوذت على شركة النفط والغاز “نوبل إنرجي” بقيمة 5 مليارات دولار، وهي تمتلك حصصاً في حقلَيْن إسرائيليَّين عملاقَيْن هُما “تمار” و “ليفياتان”.
وفي إطار مشروعات النفط والغاز المدعومة من الولايات المتّحدة الأميركيّة، تبرز حاجة إسرائيل إلى توقيع اتّفاقيّة لترسيم الحدود البحريّة مع لبنان، بما يكفل التوسُّع في استغلال حقولها الشماليّة، والمَكامِن المُشترَكة مع لبنان وقبرص، وتصدير إنتاجها إلى الأسواق الأوروبيّة، عبر تفعيل الاتّفاقيّة المُوقَّعة مع مصر، لاستخدام محطّات التسييل في إدكو ودمياط. عِلماً أنّ إسرائيل بدأت فعليّاً الإنتاج في بعض الحقول الشماليّة، واستكملت ربْط هذه الحقول بشبكة الأنابيب المحليّة وبالشبكة المصريّة. كما استكملت تقريباً الإطار القانوني والإجرائي للبدء باستغلال البلوكات المُحاذية للحدود اللّبنانيّة بما يفتح المجال لبدء عمليّة “نهب” مُنظَّمة وقانونيّة لهذه المَكامِن. لكنّ كلّ هذه الإنجازات الإسرائيليّة تبقى ناقصة وعرضة للاهتزاز، وتبقى بسببها الشركات الدوليّة الكبرى مُتردّدة في العمل بهذه الحقول والمَكامِن، إذا لم يتمّ توقيع اتّفاقيّة دوليّة مع لبنان لترسيم الحدود البحريّة للمنطقة الاقتصاديّة الخالصة.
حرب الخرائط
من خلال أربع جولات من المُفاوضات جرت في رأس الناقورة منذ منتصف تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، بضيافة الأُمم المتّحدة وبتسهيلٍ من الوسيط الأميركي، برزت ما أُطلق عليه “حرب الخرائط”، بهدف الوصول إلى “اتّفاقيّة دوليّة” لترسيم المنطقة الاقتصاديّة الخالِصة في الحدود البحريّة لكلٍّ من لبنان وإسرائيل وقبرص كطرف ثالث، بما تحمله هذه الاتّفاقيّة من أبعادٍ اقتصاديّة باستغلال المَوارِد الطبيعيّة، الأمر الذي يُميّزها عن ترسيم الحدود البريّة. وهي بالتالي ليست اتّفاقيّة تقنيّة عسكريّة، وبالتأكيد ليست اتّفاقيّة سلام أو تطبيع. وربّما تكون أكثر من “اتّفاقيّة أمنيّة” تهدف إلى حماية استثمارات النفط والغاز، وبما يُشجِّع الشركات العالَميّة بقيادة الشركات الأميركيّة على الاشتراك في جولة التراخيص الثالثة الإسرائيليّة لاستثمار البلوك رقم 72 الذي يقع بمُحاذاة الحدود اللّبنانيّة. وكذلك الاشتراك في جولة التراخيص الثانية اللّبنانيّة التي أُجِّلت مرّاتٍ عدّة بسبب ضغوط دوليّة، وتشمل خمس بلوكات (1 و2 و5 و8 و10). عِلماً أنّ البلوكَين الأخيرَين (8 و10) يقعان في المناطق المُتنازَع عليها على الحدود البحريّة.
لقد سبق للبنان أن تأخَّر 4 سنوات في إطلاق دَورة التراخيص الأولى، بسبب الخلافات السياسيّة، ما اضطُّرَّ عدداً كبيراً من الشركات للانسحاب، منها ثلاث شركات أميركيّة (إكسون موبيل، شيفرون، وإنداركو). وصادفَ في ذلك الوقت انهيار أسعار النفط الذي أسهَم بدَوره في تقليص الشركات مُوازناتها الاستثماريّة. وهذا ما يحدث حاليّاً بسبب تأثير أزمة “كورونا” وتراجُع الأسعار عالَميّاً، إذ خفَّضت الشركات المُنقِّبة ميزانيّاتها المُخصَّصة للاستكشاف.
واستناداً الى نجاح الوسيط الأميركي ديفيد شينكر بالاتّفاق على “آليّةٍ” للمُفاوضات، ركَّزت إسرائيل الترسيم على أساس اقتسام المساحة المُتنازَع عليها والبالغة 865 كيلومتراً مُربّعاً، بحصّة لها بنسبة 40%، مُقابل 60% للبنان، ولكنّها فوجِئت بدراسة تقنيّة وقانونيّة مدعومة بالخرائط، أعدّها العقيد الركن مازن بصبوص واعتمدتها قيادة الجيش اللّبناني، حول ترسيم الحدود البحريّة برفْع المَساحة التي يُطالِب بها لبنان إلى 2165 كيلومتراً مُربّعاً، وهي تجعل البلوكات الشماليّة الإسرائيليّة كلّها موضوع نِزاع. مع العِلم أنّ المسوحات (ثنائيّة وثلاثيّة الأبعاد) للبلوك 72 وبقيّة البلوكات المُحاذية للحدود، تشير إلى وجود مَكامِن مُشترَكة بغضّ النّظر عن مَسار خطّ الحدود بالزايد أو بالناقص. وتلزيم البلوك 72 لشركة إسرائيليّة يعني أنّ إسرائيل قرَّرت وضْع لبنان أمام خيارٍ من اثنَين: إمّا الترسيم والاستغلال المُشترَك للمَكامِن، وإمّا قيامها بمُباشَرة الحفْر ونهْب المَوارِد الموجودة، وعلى المُتضرِّر أن يلجأ إلى القضاء أو إلى الحرب. وحرصاً منه على دعْم الجانب الإسرائيلي، سبقَ للوسيط شينكر أنْ أكَّدَ أنّ المُفاوضات ستتناول تقاسُم المَكامن المُشترَكة، موضحاً ذلك بقوله: “هناك أجزاء من البلوكات اللّبنانيّة 8 و9 و10 تَقَعُ في المنطقة المُتنازَع عليها، كما أنّ إسرائيل تمتلك أيضاً مَكامِنَ ومَوارِدَ مُحاذية لهذه المنطقة، ونأمل أن يؤدّي التفاوُض إلى إيجاد حلّ يسمح للطرفَين بالاستفادة من تلك المَوارِد”.
وفي ضوء هذه التطوّرات كلّها، يَطرح المُراقبون حول قبول لبنان، بوساطة أميركيّة، الدخول في مُفاوضاتٍ مع إسرائيل لترسيم الحدود البحريّة بعض الأسئلة الأساسيّة: لماذا وافَقَ لبنان على مَسار المُفاوضات بدلاً من اللّجوء الى التحكيم الدولي المُلزِم، أو إلى مَحكمة العدل الدوليّة في لاهاي لتطبيق قانون البِحار الذي أقرَّته الأُمم المتّحدة في مُعاهَدة دوليّة عام 1982؟… وخصوصاً أنّ دراساتٍ عدّة (بما فيها الإسرائيليّة)، والتي قام بها خُبراء مُتخصّصون في ترسيم الحدود البحريّة، خلصت إلى أنّ حجّة إسرائيل القانونيّة في ما يخصّ مُطالبتها بالقطاع (البلوك) رقم 9 مُقابل السواحل اللّبنانيّة هي حجّة ضعيفة، تسقط أمام أيّ مُرافَعة قانونيّة دوليّة، في حين أنّ حجّة لبنان قويّة لأنّها تستند إلى قانون البِحار.
صراعٌ “جيوسياسيٌّ”
بما أنّ نفط لبنان أصبح في”عاصفة” الصراع الدولي على استثمار النفوذ “الجيوسياسي”، فإنّ القرار الاستراتيجي لم يعُد بيد الشركات، بل انتقل إلى حكومات الدول المُتصارِعة. ويُلاحَظ أنّ روسيا تسعى للحصول على مزيدٍ من الاستثمارات، وبعد شركة “نوفاتيك”، وحصّتها 20% من البلوكَين 4 و9، وحصول “روسنفت” على امتياز تطوير مُنشآت النفط في طرابلس، تستعدّ شركاتٌ روسيّة أخرى، مثل “غاز بروم” و”لوك أويل”، للاشتراك في دَورة التراخيص الثانية، وخصوصاً البلوكَين 1 و2 الواقعَين على الحدود البحريّة شمالاً مع سوريا، مُستفيدةً من قدرة موسكو على حلّ الخلاف مع الحكومة السوريّة. أمّا بالنسبة إلى الشركات الأميركيّة، فهي تترقَّب تطوّرات المنطقة، مع تركيز واشنطن على تحالُفها الاستراتيجي مع إسرائيل واليونان، وسعيها للحصول على أكبر استثمارات نفطيّة وغازيّة في لبنان، ولاسيّما في الجنوب، في إطار وساطتها لحلّ الخلاف على ترسيم الحدود مع إسرائيل.
ولمزيدٍ من الاهتمام بهذه التطوّرات في إطار الصراع “الجيوسياسي”، يُلاحَظ أنّ ثمّة مُفارَقة أميركيّة روسيّة، حيث بدأ السفير الروسي الجديد في لبنان ألكسندر روداكوف مهامّه بعدما كان سفيراً لبلاده في تلّ أبيب، وكذلك حال السفيرة الأميركيّة دورثي شيا التي سبق أن شغلت منصب سفيرة لبلادها لدى إسرائيل. ولا بدّ أن يكون لهذا التقاطُع من ارتباطٍ بإشاراتٍ سياسيّة جديدة واهتمام الدولتَين بترقُّب تطوُّر العلاقات اللّبنانيّة الإسرائيليّة، وصولاً إلى ما بعد مُفاوضات ترسيم الحدود.