غاز المتوسّط وصراع تغيير الحدود

غاز المتوسّط وصراع تغيير الحدود
Spread the love

شجون عربية _ ياسر هلال _ كاتب وإعلامي اقتصادي من لبنان/

هل الصراع في شرق المتوسّط بين تركيا واليونان/ قبرص حول الحدود البحريّة قابل للحلول الوسط من خلال المُفاوضات في ظلّ مَوازين القوى وشبكة التحالُفات الحاليّة، وترابُطه مع الملفّات الإقليميّة المُعقّدة؟ وهل يؤدّي امتزاج وقود النفط والغاز بأحقاد الحروب الدينيّة والعرقيّة ومرارة الإذعان لمُعاهدات تعيين الحدود، إلى دفْع تركيا لإشعال حرب جديدة تَستهدف تعديل هذه المُعاهدات، وتحديداً مُعاهدتَي لوزان 1923، وباريس 1947 في الجانب المُتعلّق منهما بالسيادة على جُزر بحر إيجه؟

إنّ حجْم الاختلاف كبير بين المَنظورَين التركي واليوناني/ القبرصي، لحدود المياه البحريّة لكلٍّ منهما. وهو اختلاف غير قابل للحلّ، بالاستناد إلى القوانين الدوليّة. ولذلك، فإنّ البلدان الثلاثة تخوض حَرباً حقيقيّة على الجبهات القانونيّة والسياسيّة، وأحياناً العسكريّة، أو تُهدِّد بها، لتغيير التوازُنات وفرْض أمر واقع جديد. أمّا مَن سينتصر، فذلك مَرهون بمُعطيات ومُتغيّرات مُتشابِكة وبتحالُفات دوليّة وإقليميّة مُتقلِّبة. ولكنْ من خلال استقراء التاريخ، يُمكن القول إنّ تعديل الحدود وتغيير الخرائط في المنطقة ارتبط دائماً بحروبٍ طاحِنة. وإذا كان مصطفى كمال أتاتورك تمكَّن من إنهاء مُعاهدة “سيفر” و”استعادة” البرّ التركي بعد حرب الاستقلال (1919 – 1922) وتوقيع مُعاهدة لوزان، فهل ينجح أردوغان في مُغامرته لتعديل هذه المُعاهدة و”استعادة” البحر التركي، وتحقيق شعار الوطن الأزرق، من دون حرب، وبمجرّد الاكتفاء بالتهديد بها والرقص على حافّة الهاوية؟ حجْم الاختلاف الكبير بين المَنظورَين التركي واليوناني/ القبرصي، لحدود المياه البحريّة لكلٍّ منهما. وهو اختلاف غير قابل للحلّ، بالاستناد إلى القوانين الدوليّة. ولذلك، فإنّ البلدان الثلاثة تخوض حَرباً حقيقيّة على الجبهات القانونيّة والسياسيّة، وأحياناً العسكريّة، أو تُهدِّد بها، لتغيير التوازُنات وفرْض أمر واقع جديد. أمّا مَن سينتصر، فذلك مَرهون بمُعطيات ومُتغيّرات مُتشابِكة وبتحالُفات دوليّة وإقليميّة مُتقلِّبة. ولكنْ من خلال استقراء التاريخ، يُمكن القول إنّ تعديل الحدود وتغيير الخرائط في المنطقة ارتبط دائماً بحروبٍ طاحِنة. وإذا كان مصطفى كمال أتاتورك تمكَّن من إنهاء مُعاهدة “سيفر” و”استعادة” البرّ التركي بعد حرب الاستقلال (1919 – 1922) وتوقيع مُعاهدة لوزان، فهل ينجح أردوغان في مُغامرته لتعديل هذه المُعاهدة و”استعادة” البحر التركي، وتحقيق شعار الوطن الأزرق، من دون حرب، وبمجرّد الاكتفاء بالتهديد بها والرقص على حافّة الهاوية؟

نظراً لتعقيد أبعاد وعوامل هذا الصراع وتشابُكهما، سنقوم بتقسيمها إلى قسمَين رئيسيَّين هُما: المنطقة الاقتصاديّة الخالصة في البحر المتوسّط وبحر إيجه، والمشكلة القبرصيّة.

المنطقة الاقتصاديّة الخالِصة

يتمثّل جوهر المُشكلة في هذا المجال بتحديد اليونان لحدودها البحريّة، استناداً إلى قانون الأُمم المُتّحدة للبحار الذي يُعطي الحقّ لجُزر بحر إيجة، الخاضعة للسيادة اليونانيّة، بإنشاء مَناطق بحريّة خاصّة (مياه إقليميّة، ومنطقة اقتصاديّة خالصة، وجرف قارّي). ومن بين هذه الجُزر ثلاثة تجمّعات مُحاذية للبرّ التركي. ولكنّ المشكلة تتركّز، فضلاً عن جزيرة قبرص، في جزيرة كاستيلوريزو/ ميس التي تَبعد عن البرّ التركي نحو 2 كلم، ومساحتها أقلّ من 10 كلم2 ويقطنها نحو 400 شخص بشكلٍ دائم. والسيطرة على هذه الجزيرة تؤدّي إلى تغييرٍ جذريٍّ في ترسيم الحدود البحريّة لكلٍّ من تركيا واليونان وقبرص. فإذا وُضعت تحت السيادة التركيّة او لم يتمّ احتسابها ضمن المياه البحريّة اليونانيّة أو ما يُعرف وفق قانون البحار بـ “عدم إعطائها أيّ تأثير” في ترسيم الحدود، فإنّ ذلك سيرفع مَساحة المنطقة الاقتصاديّة الخالِصة التركيّة بنحو 100 ألف كلم2 لتصل إلى 142 ألف كلم2.

ينطبق ذلك على كلّ من جزيرتَي كريت ورودوس، وكذلك على جزيرة قبرص التي ترى تركيا أنّه لا يجوز أن تمتلك مياهاً إقليميّة ومنطقة اقتصاديّة خالصة مُماثلة لدُول ساحليّة مثل مصر وتركيا، فضلاً عن اتّهام تركيا لقبرص اليونانيّة بمُصادَرة حقّ قبرص التركيّة في المَوارِد البحريّة للجزيرة. ولذلك فإنّ المُقارَبة التركيّة لترسيم الحدود قلّصت المنطقة الاقتصاديّة القبرصيّة بشكلٍ ملحوظ.

المسألة القبرصيّة

أخذت الأزمة القبرصيّة طابعاً عدائيّاً بين تركيا واليونان وقبرص في العام 1974 عندما حاول الحرس الوطني القبرصي المدعوم من اليونان احتلال القصر الجمهوري، واغتيال الرئيس مكاريوس الثالث. وقام بعدها الجيش التركي بغزو شمال قبرص لحماية الأقليّة التركيّة. وتمّ في العام 1983 إعلان قيام “جمهوريّة شمال قبرص التركيّة”، التي لم تعترف بها أيّ دولة باستثناء تركيا. واستغلَّت تركيا إعلان شمال قبرص كدولة مُستقلّة لتفترض أنّ لها الحقّ بامتلاك مياه إقليميّة ومنطقة اقتصاديّة خالِصة أسوة بقبرص اليونانيّة.

قبرص مُحصَّنة قانونيّاً

نجحت قبرص بتحصين مَوقفها القانوني، فقامَت بترسيم حدودها البحريّة مع جيرانها، (مصر 2004، لبنان 2007 – لم يتمّ إقرارها بعد-، إسرائيل 2010)، وتمّ إيداع هذه الاتفاقات لدى الأُمم المتّحدة. وأطلقت ثلاث دورات لتراخيص التنقيب عن النفط والغاز بين العامَين 2007 و 2016، تمّ بموجبها تلزيم 8 بلوكات من أصل 13 بلوكاً، لكُبريات الشركات العالَميّة مثل “إيني” الإيطاليّة، و”توتال” الفرنسيّة، و”إكسون” الأميركيّة. كما تمّ تحقيق اكتشافات مهمّة أبرزها حقلَي “أفروديت” و”غلاوكوس”، ويُقدَّر إجمالي احتياطي الغاز المؤكّد في المياه القبرصيّة بنحو 20 تريليون قدم مكعّب، كما نجحت قبرص بتحصين وضعها من الناحية السياسيّة، لكونها عضواً مؤسِّساً في منتدى غاز شرق المتوسّط، فضلاً عن عضويّتها في الاتّحاد الأوروبي، وترتبط بتحالُفٍ وثيق ومَصالِح مُشترَكة مع مصر وإسرائيل.

تركيا: تعويض الضعف القانونيّ بالعسكريّ

المَوقف القانوني التركي ضعيف نسبيّاً بمُواجَهة قبرص، وقد حاولت تقويته من خلال جملة خطوات شملت ترسيم وإعلان منطقتها الاقتصاديّة الخالصة وجرْفها القارّي. كما قامت بإبرام اتّفاقيّة مع جمهوريّة شمال قبرص في العام 2011 لتحديد الجرْف القارّي والمنطقة الاقتصاديّة الخالصة بينهما، وأَلحقتها باتفاقيّة للتنقيب عن النفط والغاز وتقاسُم الإنتاج مع شركة البترول التركيّة.

مذكّرة التفاهُم مع ليبيا

لكنّ الخطوة التركيّة الأكثر أهميّة، والتي شكّلت اختراقاً خطيراً على الجبهة القانونيّة والسياسيّة، كانت توقيع مذكّرة التفاهم مع حكومة الوفاق اللّيبيّة بتاريخ 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019. وباتت اتفاقيّة دوليّة بمجرّد إيداعها لدى الأُمم المتّحدة، وذلك على الرّغم من مُسارَعة اليونان وقبرص ومصر والاتّحاد الأوروبي إلى التشكيك بقانونيّتها ورفْض الاعتراف بها.

وتُحقِّق الاتفاقيّة جملة مَكاسِب مؤثِّرة لتركيا أهمّها: ترسيم جرْفها القارّي ومنطقتها الاقتصاديّة الخالصة استناداً إلى اعتبار جزيرة كاستيلوريزو/ مايس تحت السيادة التركيّة أو “عدم إعطائها أيّ تأثير” مع إعطاء تأثير محدود لجزيرة كريت التي تعتمدها اليونان كخطّ أساس لتحديد مياهها البحريّة. وبذلك، فإنّ الاتفاقيّة تزيد بشحطة قلم مساحة المنطقة الاقتصاديّة التركيّة الخالصة من حوالى 41 إلى 145 ألف كلم مربّع. يُضاف إلى ذلك أنّ التقاء الجرفَين القارييَّين اللّيبي والتركي يجعل تركيا مَمرّاً إلزاميّاً لخطّ أنابيب “إيستمد”.

دبلوماسيّة الغوّاصات والحفّارات

سعت تركيا لتعويض ضعف مَوقفها القانوني والسياسي ومحدوديّة تحالُفاتها، باعتماد دبلوماسيّة صداميّة ودفْع الأمور إلى حافّة الصدام العسكري، وإلى إعاقة جهود قبرص في الحفر والتنقيب، إضافة إلى تكثيف نشاط سُفن الاستكشاف والحفْر التركيّة في المياه اليونانيّة والقبرصيّة أو المُتنازَع عليها من وجهة نظرها، ما أدّى إلى إطلاق أزمة سياسيّة مع اليونان وقبرص، ومن ورائهما الاتّحاد الأوروبي، وتحديداً فرنسا التي تقود حملة لحشد التأييد لمُواجَهة تركيا، وصولاً إلى التهديد الجدّي بالمُواجَهة العسكريّة. وهو ما بدأته فرنسا بإرسال قِطع بحريّة وطائرات رافال إلى المتوسّط.

ويبدو أنّ تركيا مُستعدّة لمُواصَلة سياسة التصعيد وصولاً إلى مُواجَهات عسكريّة جزئيّة ومَحسوبة. وهو ما بدا واضحاً في تصريح أردوغان بتاريخ 20 آب (أغسطس) في ذكرى احتلال شمال قبرص، بقوله: “إنّ الجيش التركي لن يتردّد في تكرار الخطوة التي قام بها قبل 54 عاماً دفاعاً عن حقوق القبارصة الأتراك وأمنهم”. وتمّت ترجمة هذا التهديد مؤخّراً بإزاحة رئيس جمهوريّة قبرص مصطفى أكنجي وانتخاب أرسين تتار المُوالي لتركيا.

…حرب أم تسوية

لا يُمكن الاحتكام إلى القانون الدولي لحلّ النزاع اليوناني/ القبرصي مع تركيا لسببَين أساسيَّين: الأوّل أنّ تركيا لم تنضمّ إلى اتّفاقيّة الأُمم المُتّحدة لقانون البِحار، وبالتالي إلى مَحكمة قانون البِحار. والثاني أنّ انضمامها – وهو أمر مُمكن ساعة تشاء – يوقِعها في محظور الاعتراف بقبرص كدولة مستقلّة، وليس كجزيرة مُتنازَع عليها، كما تعتبرها. كما أنّ جمهوريّة قبرص التركيّة غير مُعترَف بها من المُجتمع الدولي كدولة مستقلّة، وهي بالتالي لا تتمتّع بأيّ وضع قانوني يخوّلها الحصول على حقوق الدولة الساحليّة مثل منطقة اقتصاديّة خالِصة ومياه إقليميّة.

استناداً إلى ما سبق، ولأنّ الصراع أبعد بكثير من مجرّد خلاف على ترسيم للحدود البحريّة، ويتعلّق بجوهره بتوسيع النفوذ السياسي وتعديل المُعاهدات الدوليّة وإعادة رسْم الخرائط، فإنّ أيّ حلّ لن يكون مُتاحاً إلّا إذا حصلَ تغييرٌ جذريّ في مَوازين القوى الحاليّ، سواء من خلال حرب محدودة أم من خلال توافُق دولي إقليمي على حلّ وسط.

يتمثّل “الخطّ الوسط”، الذي يبدو أنّ تركيا رسمته لحدود التنازُلات التي تقبل بها بالنسبة إلى المشكلة القبرصيّة، بمُشارَكة القبارصة الأتراك بالحُكم وبالمَوارِد. ما يعني التخلّي عن فكرة تقسيم الجزيرة إلى دولتَين التي تروّج لها، وقد يُصبح هذا “الخطّ الوسط” مقبولاً من اليونان وقبرص إذا حصل توافقٌ أوروبي – أميركي – روسي عليه.

أمّا بالنسبة إلى مشكلة توسيع الحدود البحريّة التركيّة، فقد يكون “الخطّ الوسط” هو تخلّي اليونان عن اعتبار جزيرة كاستيلوريزو/ ميس امتداداً للبرّ اليوناني، ما يعني زيادة مساحة المنطقة الاقتصاديّة التركيّة الخالِصة، لكنْ بنسبة أقلّ بكثير ممّا تُطالِب به تركيا. على أن تتنازل تركيا عن مُطالبتها بتعديل اتّفاقيّتَي لوزان وباريس. ولْينتظر مَن يخلف الرئيس أردوغان فرصةً أخرى لتعديلهما.