العُزلة والتأمُّل والمَعرِفة

العُزلة والتأمُّل والمَعرِفة
Spread the love

شجون عربية _ بقلم: د. عبد الله إبراهيم _ كاتب من العراق/

سلخ أفلاطون عمره في الدّفاع عن المعرفة العقليَّة، وأَنطق سقراط بسجالٍ لا نهاية له حول الفضيلة في مُحاوراته، وجعلَ الرؤية دليله لوصْف العالَم المرئيّ، غير أنّه انتهى آخذاً بالإشراق الروحيّ الذي أشبه ما يكون بالرؤيا المُتبصِّرة بأحوال النَّفس والعالَم، وهي حال تكاد تُماثِل حالَ الكشف الشعريّ عند المتصوّفة، غير أنَّها تقوم على المُجاهَدة، والتأمُّل، والتفكُّر، والاعتبار، فتفضي إلى مَعرِفةٍ تُشرق على النَّفس إشراقاً في ما يقول أهل المُكاشَفة، فيكون أفلاطون خَتَمَ حياته عارفاً بالحكمة الجوّانيَّة التي تَستبطِن النَّفس، وتنبثق كإشعاعٍ شعريّ يفيض عليها فيضاً إبّان العزلة التأمليّة.

فصَّل أفلاطون هذا الضرب من المعرفة الجوّانيّة التي يدفع بها التأمُّل في “الرسالة السابعة”، وهي آخر ما دُوِّن في حياته من رسائل ومُحاورات، وفيها أورد جانباً من سيرته الذاتيَّة، وتعدُّ الرسالة السابعة من أصحِّ ما يُنسب إليه من مدوّنات، وفيها صور المآل الذي انتهى إليه مفكِّراً كشفيّاً: “وجدتني مدفوعاً إلى الاعتراف بقيمة الفلسفة الحقَّة والتأكُّد من أنّها هي وحدها التي تمكِّن الإنسان من معرفة العدل”.

يُحسن بيان الإطار السَّردي الذي انتظمت فيه الرؤيا الكشفيَّة عند أفلاطون، كما عرضها في رسالته؛ فبعد أن تقدَّم به العمر تلقَّى من تلميذ له يُدعى “ديون” دعوة لزيارة “سرقوسة”، في جزيرة “صِقِلِّية”. وكان ديون أحد تلامذته، وبحسب بلوتارخ، فقد عُرف عنه “التعالي، والخيلاء، ونُبل الضمير، والشجاعة الفائقة”، فربطته بأفلاطون “أواصر صداقة دائمة”، وحالما وصل المدينة مدعوّاً حتّى بذل جهداً أخيراً لتحقيق مفهومه لـ “الفضيلة الإنسانيَّة”، فقد ضرب من قبل في شؤون الجدل، والتعليم النظري، ودوَّن أفكاره في مُحاوراتٍ وضعها على لسان سقراط بعد أن جُرِّع السمُّ، لكنّه اختار في المرحلة الأخيرة من حياته أن يكون مُصلحاً للنفوس التي استبدّ بها الطغيان، وغايته إصلاح نفس حاكِم الجزيرة “ديونيزيوس”، بإغراءٍ من ديون الذي رجح لديه بأنّه لا يوجد أفضل من أفلاطون يتولَّى تعديل سلوك قريبه الطاغية، ففي ضوء ما تلقَّاه على يد أستاذه من أفكار حول المثُل، والفضائل، خامره الأمل في أن يُسهم أفلاطون في ترميم سياسات الحاكم الجائر الذي حاول أن يظهر بمظهر التلميذ الأمين لأفلاطون لكنّه اشتطّ في طغيانه.

استجاب أفلاطون، بعد تردُّد، ودافعه إنزال أفكاره النظريَّة في منزلة الواقع، ولكن ما إن وطأ أرض الجزيرة حتّى وجدَ البلاط يعجُّ بالدَّسائس والنَّمائم، وقد حلَّ الغشّ محلّ الأمانة، والمكر مكان الاستقامة، فاضطّربت الأحوال العامّة، ونُفي تلميذه ديون، فوُضِع أفلاطون في الإقامة الجبريَّة في برج إحدى القلاع، لكنّه تمكَّن، بعد مدّة، من إقناع الحاكِم بمُغادرة الجزيرة، وما لبث أن عاد إليها مدفوعاً برغبته في إصلاح الطاغية الذي أُشيع أنّه ألَّف كِتاباً في فلسفة أفلاطون، فتعرَّض لأذىً بالغ كاد يقضي عليه، هذه المرَّة، فهرب ناجياً بحياته “بما يُشبه الأعجوبة”.

هذا الإطار السرديّ

ذكر “ديوجينيس اللّائرسي” أنَّ أفلاطون خاطبَ الطاغية: إنّ مصلحة الحاكِم ليست هي الغاية الفضلى إلّا إذا كان الحاكِم مرموقاً وسامياً في الفضيلة، فشعرَ الطاغية بالإهانة، واتّهم أفلاطون بالخرف، فما كان من الأخير إلّا أن اتّهمه بالطغيان، فعزم على قتْل أفلاطون، وبعد التماساتٍ صرف النّظر عن قتله، وبه استبدل تسليمه إلى تاجرِ عبيد، فأخذه الأخير إلى جزيرة “أيجينا”، وباعه باعتباره أسير حرب. بيع الفيلسوف العظيم عبداً أسيراً، أمّا رحلته الثانية إلى صِقلِّيَة، فقصد منها التماس موافقة حاكمها أن يهبه أرضاً وناساً بغية أن يُقيم عليها جمهوريَّته، وقد وافق الحاكِم على ذلك، لكنّه لم ينفِّذ وعده. ولا تُعرف الأسباب وراء ذلك، فربّما وجدَ أنّ تطبيق الفكرة سينزع عنه الحُكم، وربّما وجدَ في الفكرة خيالاً لا سبيل إلى إنزاله مَنزلة الواقع. أمّا الرحلة الثالثة، فأراد بها إصلاح الخلاف بين ديون وديونيزيوس، ولم ينجح في وفادة الصلح، فقفل عائداً إلى وطنه، وأَحجم عن الاشتغال في السياسة، فيكون قد جعلَ الاعتزال خاتمةً لحياته.

أتاح هذا الإطار السَّردي الذاتي، الذي رسمه أفلاطون لرحلاته إلى صِقِلِّية بهدف إصلاح حاكم سرقوسة، أن يُعبِّر عمَّا يريد ترسيخه من فضائل في ظلّ طاغيةٍ متقلِّب المزاج، وخلال مُحاولاته ترميم العطب الخاصّ بالحُكم، نمى إلى سمعه أنّ ديونيزيوس خاض غمار التأليف في موضوع الفضيلة التي أمضى أفلاطون طرفاً من حياته في البحث فيها، وهو عارف بأنّ نفْسَ الطاغية طُبعت على الشرّ الذي لا يُمكن أن تلامسه الفضيلة لكي يدبِّج بها كتاباً، فتلك دعوى زائفة يريد منها الطاغية الادِّعاء أنّه صاحب فضائل، وهنا تجرَّد أفلاطون لتبديد الشائعة الباطلة؛ فالمعرفة الحقيقيَّة لا يُمكن التعبير عنها بالكتابة؛ لأنّ موضوعها “تنبثق حقيقته في النّفس فجأة بعد مُشارَكةٍ طويلة وتعاوُنٍ مُستمرٍّ في العكوف عليه، كما ينبثق نور قدحته شرارة واثبة، وهناك يتغذَّى وينمو نموّاً مطَّرداً” .

لم يكتفِ أفلاطون بنفي قدرة ديونيزيوس على الإسهام في ذلك، بل أَطلق حُكماً حول تعذُّر النطق بتلك المعرفة “لو تبيَّن أنّه يوجد شيء مكتوب أو شفهي عن الموضوع، فإنّ الأفضل أن أكون أنا صاحبه، كما أعلم أيضاً لو أنّه عرضَ عرضاً سيّئاً فلن يُضار من وراء ذلك أحدٌ غيري. ولو دار بخلدي أنّ من الواجب أن يبلغ للرأي العامّ بطريقة وافية في صورة شفاهيَّة أو مكتوبة، فهل كان يُمكن أن أُحقِّق في حياتي عملًا أروع من هذا، وهل هناك أجمل من أن أُقدِّم للبشريَّة مذهباً عظيماً يصف لهم طريقة الخلاص والإنقاذ، ويُظهر حقيقة الأشياء ليراها الجميع؟ ولكنّني لا أعتقد أنّ مُحاولة وضْع هذه الأمور في كلماتٍ يُمكن أن تنفع الناس، اللّهمَّ إلا فئة قليلة جدّاً لن يستعصي عليها أن تجد الحقيقة بنفسها مع شيء قليل من التوجيه والإرشاد. أمّا بقيَّة الناس فسوف توغر صدورهم على الفلاسفة وتملأها بالازدراء لها، أو تولِّد فيهم الغرور الأحمق الباطل الذي يُصوِّر لهم أنّهم اطَّلعوا على سرٍّ رائع”.

موضوع المعرفة الحقَّة

توغَّل أفلاطون في باطن السرِّ الذي لا يجوز أن تتداوله العامّة، ولا يُمكن الجهر به، فلا يُعرف إلّا بالبصيرة العميقة، ولا يُستكشف بغير الرؤيا الجوانيّة، وهو موضوع المعرفة الحقَّة، ومَقامه في النَّفس المُعتزلة، ويتعذَّر وصفه باللُّغة؛ لأنّ اللُّغة قاصرة عن ذلك، إذ يمتنع وصف حقيقة المعرفة حتّى لو امتلكَ المرء قوَّة بصر الإغريقي “لينكويس” الذي تُضرب الأمثال بحدّة بصره إلى درجة يخترق فيها الأشياء الصلبة، فمَن لا يشعر نحو المعرفة بـ”صلة القرابة الحميمة لن تقربه منها سهولة التعلُّم، ولا قوَّة الذاكرة؛ لأنّه، أي الموضوع، لا يمدُّ جذوره أبداً في طبائع غريبة عنه”؛ وعلى هذا فحاكِم سرقوسة عاجز بطبعه عن ذلك، فلا يتوفَّر على القدرة لإدراك ماهيَّة المعرفة التي ادَّعى أنّه تابعَ أفلاطون في كشْف حقيقتها؛ ذلك أنّ أفلاطون نفسه يعاني صعوبة في لمْس جوهرها. زعمَ أفلاطون أنّ تلك المعرفة السريَّة لا تُدرك بالحواس، ولن يراها شخص ضُرب المثل به بقوّة البصر، مثل لينكويس. وقد التقط أرسطو، في ما بعد، هذه الإشارة في سياق عرضه للحقيقة، فهي غائبة عن غالبيَّة الناس، وما يعرفونه هو ظلالها فقط: “لو استطاع أحد أن يبلغ من حدة البصر مَبلغ لينكويس – الذي يُروى عنه أنّه كان ينفذ ببصره خلال الجدران والأشجار – فهل كان في مقدوره أن يحتمل رؤية رجل إذا رأى معه كلّ البؤس الذي رُكِّب منه؟ إنّ الشرف والشهرة اللّذَين اعتاد الناس على السعي وراءهما أكثر من أيّ شيء آخر يطفحان، في الواقع، بحمق لا يُوصف، لأنّ مَن رأى شيئاً من الأمور الأبديَّة سيَجد من السذاجة أن يبذل جهداً في سبيل هذه الأشياء”.

ختمَ أفلاطون حياته بالمَعرفة الكشفيَّة التي تُشرق على النَّفس إشراق النور، المعرفة اليوتوبيَّة، وهي في جملتها ظلال لحقائق أبديَّة لا سبيل للتصريح بها إلّا بصعوباتٍ بالغة، فكأنَّها تُماثل الكشف الشعري، ففضلاً عمّا تؤدِّي إليه إشاعتها بين الناس، من اضطرابٍ وفوضى، فإنّ تلك المَعرفة تتأبَّى عن التعبير بوسائل التعبير الشفويَّة والكتابيَّة، فمَقامها النَّفس الفاضلة التي تنطوي عليها في صَونٍ كاملٍ لها من العبث والتداوُل بين عامّة الناس. وهي ذاتها المعرفة التي وصفها الفلاسفة المسلمون بأنّها من “المضنون به على غير أهله”، فهو “الإشراق” الذي استأثر باهتمامٍ واضح من لدُن بعض الفلاسفة، لكنّهم تكتَّموا عليه خوفاً ورهبة، وقد نُكِّل بكثير منهم بسبب ذلك، فغير مرغوب في إبصار حادٍّ يبلغ درجة البصيرة.

مؤسسة الفكر العربي