إسكتلندا بين مطرقة “بريكست” وسندان الاستقلال

إسكتلندا بين مطرقة “بريكست” وسندان الاستقلال
Spread the love

شجون عربية _ بقلم: د.فاطمة واياو _ كاتبة مغربيّة مُقيمة في إسكتلندة/

يَطرحُ الكلامُ على العلاقات بين إسكتلندا وإنكلترا، صعوبة الإلمام بحيثيّاته كلّها في مقالتنا هذه؛ ذلك أنّ العلاقة بين البلدَيْن اتّسمت، على مرّ التاريخ، بالمدّ والجزر: مرّة بحروب دمويّة، ومرّات أخرى بالسِّلم، ويليه الاتّحاد الذي تُوِّج بالاتّفاق المُوقَّع في العام 1707، والذي سيُحقِّق اتّحاداً دائماً ومُستمرّاً إلى يومنا هذا، أو على الأقلّ، إلى العام 1980، حيث بدأت بوادر تصدُّعه، والتي تُوِّجت بإقرارِ تفويضٍ للتسيير المحلّيّ لبعض القطاعات في إسكتلندا، بخاصّة التعليم والصحّة والسَّكَن والنَّقل، فضلاً عن البرلمان المحلّيّ، الذي كان قد افتُتح في العام 1999.

إنّ صعود “الحزب الوطني الإسكتلندي” الدّاعم للانفصال منذ العام 2004، وضغْطه في اتّجاه قبول تنظيم استفتاء حول الاستقلال، سيُسفر عن مُوافَقة حكومة لندن على إجراء استفتاءٍ شعبي، وذلك في العام 2014، الذي دَعَمَ اختيارَ النّاخبين البقاء في الاتّحاد وتبنّي شِعار المُحافِظين: “إنّنا أقوياء عندما نكون معاً”. غير أنّ استفتاء “بريكست” Brexit 2016 (مُصطلح “بريكست” هو اختصار لعبارة: British Exit وتعني مُغادرة بريطانيا الاتّحاد الأوروبي) سيكون امتحاناً صعباً لهذا الشِّعار. فهل ما يزال المُحافظون قادرين على إقناع الحكومات المحليّة بجدواه، وخصوصاً مع عَودة النَّزعات القوميّة التي قد تُهدِّد الوحدة البريطانيّة بعد تنفيذ اتّفاق الخروج؟

الدَّرب الشائك إلى اتّفاق بريكست

يوم 24 كانون الأوّل (ديسمبر) 2020، غرَّد بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني عبر تويتر: “تمّ الاتّفاق”، وكان يقصد أنّ بريطانيا والاتّحاد الأوروبي توصّلا أخيراً إلى اتّفاق خروج المَملَكة المتّحدة من عضويّة الاتّحاد الأوروبي. أنتهى هذا الاتّفاقُ، الجدلَ الطويل الذي دام أربع سنوات من المُفاوضات الماراتونيّة، والتي كانت مُهدَّدة بأن تُفضي إلى خروجٍ من دون اتّفاق. وقد يكون هذا الاتّفاقُ قد خفَّف من حدّة بعض التهديدات المُتربِّصة بالاتّحاد البريطاني، وخصوصاً في مسألتَيْ الصَيد البحري والحدود بين إيرلندا الشماليّة وإيرلندا الجنوبيّة، إلّا أنّه لا يُعَدّ آمناً، باعتبار أنّه لَحَظَ فترةً انتقاليّةً، وبالتالي لا يُمكن التكهُّن بمَصير الاتّحاد، وخصوصاً بالنسبة إلى كلٍّ من إيرلندا الشماليّة وإسكتلندا اللّتَيْن كانتا قد صوَّتتا ضدّ Brexit خلال استفتاء العام 2016.

والسؤال الذي يُمكن طرْحه، هو ما مَوقف مَن كانوا مع البقاء في الاتّحاد الأوروبي؟ وما هو مصيرهم وقد أصبحوا الآن مُضطّرّين لقبول اتّفاق الخروج، والذي تمّ حتّى من دون إسهام حكومتهم فيه؟ وأقصد هنا، على وجه الخصوص، حكومة إسكتلندا، وهو الأمر الذي ما فَتئت السيّدة نيكولا ستارجن، الوزيرة الأولى في حكومة أدنبرة تؤكِّد عليه، باعتبار أنّ هذا الخروج يتمّ ضدّ إرادة الشعب وضدّ احترام رأيه، الذي عبَّر عنه عبر التصويت بالأغلبيّة خلال استفتاء Brexit. أمّا مُعارضو هذا المَوقف، فيردّون عليه مُتذرّعين بأنّ عدم استشارتهم تأتي في إطار دستور المَملَكة المُتّحدة الذي يخوِّل حكومة لندن التفاوُض مع الاتّحاد الأوروبي باسم البلدان الأربعة المُشكِّلة لـ “بريطانيا العظمى”، على الرّغم من أنّ الحكومة المحليّة في إدنبرة ما فتئت تُذكِّر الحكومة في “وستمنستر” في لندن، بأنّ الشعب الإسكتلندي لم يُصوِّت لمصلحة بريكست، بل إنّه كان يؤيِّد بقاء المَملَكة المُتّحدة في الاتّحاد الأوروبي. ولا بدّ في هذا السياق من التذكير بأنّ المُطالَبة بالاستقلال، بالنسبة إلى الشعب الإسكتلندي، تعود إلى عهودٍ ضارِبة في القِدَم، وبأنّها لم تكُن تجربةً سهلة، بل مريرة ودمويّة في محطّات كثيرة من تاريخ البلاد.

“ويفرلي” أو استقلال إسكتلندا عبر التاريخ

تحكي رواية “ويفرلي” (نُشرت في العام 1814) عن البطل الإنكليزي إدوارد ويفرلي، الذي انضمّ إلى ثوّار شمال إسكتلندا من أجل إعادة المَلِك تشارلز إدوارد ستيوارت إلى الحُكم، خلال ما يُعرف بـ “انتفاضة اليعاقبة” التي حدثت في العام 1745. ونستشفُّ من الرواية التي مَزَج فيها الكاتِب “سير ولتر سكوت” (1771 – 1832) بين الخيال والأحداث التاريخيّة، الرمزيّةَ العميقةَ لشخصيّتَيْ “روز” و”فلورا” اللّتَيْن وحَّدتا بين الإنكليز والإسكتلنديّين في ما يتعلّق باستحسان الشخصيّتَين، على اعتبار أنّ “فلورا” ترمز إلى إسكتلندا، التي تصبو إلى التحرُّر والاستقلال، و”روز” تتوق إلى الاتّحاد مع إنكلترا، وهو توازُن أرادَ الكاتِب من خلال رمزيّته أن يُعبِّر عن مَخاوِف الشعب الإسكتلندي من شلّال دمِ الحرب الأهليّة التي كانت وشيكةً زمن كِتابة الرواية. ولعلّ الإحالة إلى رواية “ويفرلي” هنا تشي بخلود الأدب حين يتجاوز الأزمنة، وحين تكون العلاقات الجيو – سياسيّة مُستعادة لتؤكِّد مرّة أخرى أنّ مقولة “التاريخ يُعيد نفسه” صحيحة بامتياز. وهذا ما نَستخلصه حين نَنظر إلى النّقاش الرّاهن الحادّ حول استقلال إسكتلندا عن الاتّحاد الإنكليزي.

ولعلّ المُسافر إلى مدينة أدنبرة على مَتن القطار، سيسترعي انتباهه اسم المحطّة: Waverley station، الواقعة في قلب العاصمة، حيث إنّها تُعتبر المحطّة الوحيدة في العالَم التي سُمّيت تخليداً لعملٍ أدبيّ واحتفاءً برواية “ويفرلي” لكاتِب إسكتلندا العظيم “سير ولتر سكوت”، ولعلّنا لا نُجانب الصواب إذا أبرزنا ما في هذا الأمر من رمزيّةٍ عالية لأنّه يَنِمُّ عن مدى تشبُّث الشعب الإسكتلندي بقيَمِه العريقة وفَخره بإنجازاته الوطنيّة، فضلاً عن تقاليده على مستوى اللّباس الوطني والموسيقى والأدب والطعام والرقص…إلخ.

لا يُمكن ذِكر الأدب العالَميّ الخالد من دون ذِكر الشاعر الوطنيّ “روبرت بيرنز”، لدرجة أنّه يُحتفى به في 25 كانون الأوّل (ديسمبر) من كلّ عام كعيدٍ وطني. هذا الشاعر و”آدم سميث” أبو النظريّة الرأسماليّة، و”دايفيد هيوم” أبو الفلسفة التجريبيّة، وغيرهم، تصادف تماثيلهم في الشوارع، وفي المتاحف في أدنبرة وغيرها من المُدن الإسكتلنديّة، اعترافاً بجهودهم واعتزازاً بشعبٍ دأب على أن يُنجب المُخترعين في حقولٍ مَعرفيّة عدّة أفادت بأغلبها البشريّة جمعاء. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر: “جون لوجي بيرد” الذي قدّم أوّل نِظامٍ لتلفزيونٍ ميكانيكيّ. و”ألكسندر غراهام بِل” مؤسِّس الاتّصالات الهاتفيّة، من دون أن ننسى “ألكسندر فلمنغ” مُخترع البنيسلين، الذي أَنقذ الملايين عبر العالَم. من هنا تبدو مَشاعر الفَخر ومَظاهره سمةً غالِبةً لدى الشعب الإسكتلندي، ما يمنحه أحقيّةَ المُطالَبة بالسيادة الوطنيّة.

بين الانضمام والاستقلال

في حال نجاح “الحزب الوطني الإسكتلندي” في الانتخابات البرلمانيّة، هل يُمكن أن تنضمّ إسكتلندا المُستقلَّة بسهولةٍ إلى الاتّحاد الأوروبي؟

يُشكِّك المُراقبون في ذلك، بخاصّة إذا علمنا أنّه ربّما يُصبح أيّ استفتاءٍ ثانٍ، مُقرَّرٍ من جانبٍ واحد (أي من جانب حكومة إسكتلندا)، غيرَ شرعيّ. ولعلّ قرارَ المَحكمةِ العليا في إدنبرة، الذي صدر يوم 6 شباط (فبراير) 2021، والقاضي برفْض إجراء استفتاءٍ ثانٍ حول استقلال إسكتلندا من دون مُوافَقة حكومة لندن، يُعقّد مسألة الاستفتاء، وبالتالي الاستقلال، على الرّغم من أنّه لم يُصبح بعد مُستحيلاً، وذلك بفضل ضغْط الشعب في إسكتلندا الذي يزداد حماسةً للاستقلال بعد “بريكست” Brexit، على أمل العَودة إلى الاتّحاد الأوروبي كدولةٍ مُستقلّة. وهو ما جاء في تغريدةٍ للوزيرة الأولى: “بريكست يتحقّق بعكس إرادة شعب إسكتلندا الذي صوَّت بنسبة 62% ضدّ الخروج من الاتّحاد الأوروبي”، مُضيفةً: “لا يُمكن لأيّ اتّفاق على الإطلاق أن يُعوِّض ما أخذه “بريكست” Brexit منّا”. كما أنّ الشعبيّة التي حَظيت بها الإدارة الجيّدة لجائحة “كوفيد 19” في بداية تفشّي الوباء، من طَرَفِ الحكومة، تَمنح حظوظاً واسعة لقلْب المُعادَلة لصالح المُنادين بالاستقلال.

غير أنّ المُراقبين الاقتصاديّين ما فتئوا يؤكّدون من خلال توقّعاتهم أنّ استقلال إسكتلندا عن المَملَكة المُتّحدة، قد يدفع بها إلى انكماشٍ اقتصاديٍّ يصل إلى 11 مليار جنيه استرليني سنويّاً. كما أنّ 61% من صادرات إسكتلندا و67% من وارداتها، تتمّ داخل حدود المَمْلَكة المُتّحدة. فضلاً عن أنّ هذا الانكماش لن يعوّضه بأيّ حالٍ من الأحوال عَودة إسكتلندا إلى الاتّحاد الأوروبي، والذي أبانت جائحة “كوفيد 19” على أنّه أصبح تكتُّلاً يُعاني مُشكلاتٍ بنيويّة اقتصاديّة واجتماعيّة عديدة، بل وتحكُّم اللّوبي المالي في بروكسل في القرارات السياسيّة كذلك.

بينما يعتقد المؤيّدون للاستقلال من الخُبراء الاقتصاديّين، أنّ استقلال البلاد سيَمنحها فُرصةَ اللّحاق بالاتّحاد الأوروبي كدولةٍ مُستقلّة، ما سيُمكّنها من استعادة السوق الأوروبيّة المُشترَكة، بخاصّة ما يتعلّق ببَرنامج Erasmus، واستقبال العمالة الأوروبيّة بشكلٍ سلس. وفي هذا الصدد، غرّدت الوزيرة الأولى عقب إعلان خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوربي قائلة: “أرجوكم ابقوا هنا، لا ترحلوا، هنا بلدكم وطنكم…”. وقد علّق العديد من الأوروبيّين بأنّهم شعروا بالدفء والاطمئنان عقب كلمتها المُتلفَزة والموجَّهة إلى الجالية الأوروبيّة المُقيمة في إسكتلندا، والتي يفوق تعدادها 300.000 أوروبي.

انتخاباتُ حَسْمِ الجَدَلِ

الآن، والعالَم يعيش على الإيقاع المُميت لجائحة كوفيد 19، ويتكتّل بَحثاً عن لِقاحاتٍ ناجعة للقضاء على الوباء، يشعر عددٌ لا بأس به من مكوّنات الشعب الإسكتلندي، أنّ إنهاء الاتّحاد مع أوروبا، هو ضربة موجِعة ومُخيِّبة للآمال، وخصوصاً إذا ما عَلمنا أنّ أغلبهم كانوا قد صوّتوا ضدّ بريكست. هذا الواقع أدّى بأغلب الإسكتلنديّين إلى الشعور بأنّهم غُبِنوا حين صوَّتوا لمَصلحة البقاء في المَمْلَكة المُتّحدة خلال استفتاء الاستقلال في العام 2014.

في المحصّلة، سيظلّ موضوع الاستقلال والعَودة إلى الانضمام إلى الاتّحاد الأوروبي مفتوحاً على كلّ الاحتمالات في انتظار الانتخابات البرلمانيّة المُزمَع إجراؤها في 6 أيّار (مايو) 2021، والتي قد تَحسم الجدل، بخاصّة إذا ما تمكَّن “الحزب الوطني الإسكتلندي”، مُتصدِّر مشروع استقلال إسكتلندا، من الضغط (في حال فَوزه) على حكومة ويستمنستر في لندن لقبول إعادة الاستفتاء حول الاستقلال.

في ظلّ استطلاعات الرأي الأخيرة التي أَظهرتْ، وبحسب صحيفة The Scotsman، أنّ 58% من المُواطنين باتوا يؤيّدون الاستقلال، في مُقابل 44.58% فقط، خلال استفتاء العام 2014، يبدو أنّ “بريكست” أثَّر بشكلٍ كبير في وضعيّة إسكتلندا الحاليّة، وسيؤثّر من دون شكّ في مُستقبلها السياسيّ أيضاً.