في الخطاب السياسيّ والإيديولوجيّ العربيّ

في الخطاب السياسيّ والإيديولوجيّ العربيّ
Spread the love

شجون عربية _ بقلم: د.كرم الحلو _ كاتب من لبنان _ دَرج الفكرُ الإيديولوجيّ العربيّ المُعاصِر على البدء بطرْحِ صورةٍ قاتِمة للأوضاع السياسيّة أو القوميّة أو الاجتماعيّة أو الثقافيّة تدفع إلى حالٍ من الشكّ والارتياب واليأس يبدو معها الواقع العربيّ موصداً أمام التبدُّل والتحوُّل أو التطوُّر والتغيير. لكنّ هذه الصورة القاتمة سرعان ما تنتهي إلى غير ما باشرته. فما كان عصيّاً على التغيير يعود مُمكِناً مُحتمَلاً، والأبواب التي كانت تبدو موصَدة، ترجع مُشرَّعةً مفتوحةً إلى الأرْحب والأفضل، والذين افترضوا مَعاقل الجمود والتخلُّف والعقبة الكأداء أمام الحداثة تُلقى على عاتقهم كلّ المسؤوليّات والمهمّات التي اعتُبرت مُستحيلة أو تكاد، ويصبحون هُم بالذّات، المُنقِذين ورجاء التقدُّم والتحديث.
على هذه الصورة مثلاً جرت وتجري الأبحاث والدراسات والندوات من أجل الديمقراطيّة في العالَم العربي، حيث تصوّر الساحة العربيّة خلوّاً، أو تكاد، من الدساتير والأنظمة السياسيّة العصريّة الضامِنة لحقوق الإنسان في غفلة من الجماهير “الأميّة” و “المغلوبة على أمرها” والغارقة في سبات التخلُّف والجمود، حتّى لكأنّها امتدادٌ وتواصُلٌ لعامّة القرون الوسطى.
إلّا أنّ هذه الصورة القاتمة تغيب لتُطرح اللَّبْرَلة الشاملة والكاملة للعالَم العربي: سلطة سياسيّة مَصدرها الشعب وحده ومُستقلّة عن فتاوى اللّاهوتيّين والفُقهاء، الإقرار بحقّ الاختلاف، أيّاً تكُن وجهته وشكله، المُساواة التامّة بين جميع المُواطنين، بغضّ النَّظر عن الجنس والمُعتقَد والطبقة، أي باختصار عَلْمَنةُ السياسة والمُجتمع.
هكذا بكلّ هذه البساطة تتبدَّل الصورة وتَنقلب من دون أن يتساءل أصحابها كيف ولماذا؟ كيف أَصبح تداوُل السلطة أمراً واجباً؟ وكيف غدا حقُّ الاختلاف والعقيدة والمُساواة مَهمّةً لا مُمكِنة فحسب، بل ضروريّة وواقعيّة؟ وكيف تحوَّلت الجماهير “المُغفَلة والأميّة والقروسطيّة” هي ذاتها عصب التغيير الديمقراطي العلماني؟ وكيف أَمكن طرْح مَصدرٍ دنيوي للحُكم والسياسة بعدما اعتُبر ذلك من مُحرّمات العقل السائد؟
هذه التساؤلات يتمّ تجاوزُها عادة،ً وتُطوى أخيراً، في جعبة “التوصيات الختاميّة”. ولكن توصيات إلى مَن؟ هل هي إلى الجماهير نفسها التي أَعلنَ تخلُّفُها أصوليّتَها وتواصُلَها مع القرون الوسطى؟ أم إلى النّخبة المُثقّفة التي قد لا تقلّ، في رأي البعض، أصوليّةً وتواصُلاً مع القرون الوسطى عن الجماهير، والتي لم تتمكَّن حتّى الآن من إجراء تغييرٍ نَوعيّ في تعاطيها مع القضايا الكبرى للأمّة والمُجتمع فكيف في قيادة الجماهير وتوجيهها؟ أم إنّ هذه التوصيات، هي توصيات لأصحابها فقط، يخرجون بها من مَأزقِهم، لأنّ الواقعَ في نَظرهم مرفوضٌ، ولا يملكون من أجل تغييره غير هذه التوصيات العاثرة التي لم تُبدِّل شيئاً حتّى الآن، بل هي تعايشت جنباً إلى جنب مع ركود المُجتمع وتخلُّف بنيته؟
ولا يختلف الفكر القومي في آليّاته وأنماطه عن الفكر الديمقراطي العلماني. فالسائد في الفكر القومي العربي، وبالأخصّ بعد نكسة 67، أن يبدأ أيُّ مؤتمر أو بحث في الواقع القومي بنعي الروابط القوميّة العربيّة، والوحدة العربيّة، حيث التّجزِئة والتّفتُّت العصبوي يُهدِّدان حتّى الدولة القطريّة ذاتها، وحيث الأنظمة العربيّة “ضالعة” في التآمر على شعوبها و”متواطئة” مع “الاستعمار والإمبرياليّة” من أجل إدامة التجزئة، أو “مُرتهَنة” بحُكم مَوقعها السلطوي والاقتصادي إلى الاحتكارات والشركات الدوليّة، وحيث الجماهير العربيّة مشغولة بهمومها المعيشيّة اليوميّة عن الهموم القوميّة الكبرى أو غارِقة في صراعاتها الفئويّة والإثنيّة والمذهبيّة.
وعلى الرّغم من هذه الصورة الحالِكة السواد، ينتهي البحث أو المؤتمر بتوصياتٍ ومُقترحاتٍ، ليس أقلَّها تكاملُ الاقتصادات العربيّة في اقتصادٍ واحدٍ موحَّد، وإيجادُ السوق العربيّة المُشترَكة، وتحقيقُ التنميةِ المُستقلّةِ والتوزيعِ العادل للدخل القومي، وفكُّ الارتهانِ الاقتصادي والسياسي مع الاحتكارات العالَميّة لمصلحة الشعوب العربيّة، وتوحيدُ المَوقف السياسي العربي وارتقاؤه فوق النِّزاعات والنَّزعات القطريّة والطائفيّة والمذهبيّة والعشائريّة.
لكنّ الحقيقة التي يغفل عنها الفكرُ السياسي القومي، هي أنّه يتوجّه بتوصياته هذه، إمّا إلى “الأنظمة” ذاتها “المُرتهَنة والضالعة في الإمبرياليّة” ضدّ شعوبها، وإمّا إلى الجماهير عَينها غير المؤهَّلة، في عُرفه، للنهوض بهكذا مَهمّات لعصبيّاتها وبؤسها وأُميّتها.
ويَعتمد الخطابُ الثقافي المَنهجَ نفسه. ينطلق من “انشطار” الثقافة العربيّة وهامشيّة المُثقّفين العرب واغترابهم وارتهانهم للسلطة وانغماس أكثريّتهم الساحقة في مَصالحه الخاصّة، بعيداً عن هموم المُجتمع والناس، في “غياب الجبهة الثقافيّة النقديّة الإبداعيّة ذات السلطة الفاعِلة المؤثِّرة على المستوى القُطري أو القومي في مُواجَهة سلطة ثقافة السلطة العربيّة السائدة… حتّى ليكاد يخفت صوت العقلانيّة والعلمانيّة والرؤى الموضوعيّة والنقديّة والإبداعيّة وقيَم الحداثة مُخلياً الساحة أمام الأصوليّات المُتخلِّفة والظلاميّة” على ما رأى محمود أمين العالِم.
مع ذلك، لا يلبث الخطاب الثقافي أن يُلقي على عاتق الثقافة العربيّة إيّاها والمُثقّفين العرب إيّاهم مسؤوليّةَ كلّ القضايا العربيّة الكبرى: التنميةُ المُستقلَّة والنهوض بالمُجتمع المدني وصوغ عقدٍ قَوميّ للأمّة العربيّة وبعث الحوار المُجتمعي ودمقْرطة المُجتمع بمؤسّساته كافّة.
لكنْ هل يَنهض بكلّ هذه المَهمّات العظيمة والجليلة ثقافة ومثقّفون على تلك الحال التي دأب الخطاب الثقافي على الانطلاق منها في التعامل مع المسألة الثقافيّة؟
الفكر العربي المُعاصِر، هو إذاً فكرٌ مُلتبس مُتناقض بين مقدّماته ونتائجه، يترجَّح بين رؤيةٍ مُتشائمة للواقع العربي تتضاءل معها، إلى حدّ الإمّحاء، سُبل النهوض والارتقاء والخلاص، ورؤية أخرى مُتفائلة تَطرَح النهضة كإمكانيّة واقعيّة وكحالٍ مُستقبليّة. وبين هاتَين الرؤيتَين تتبدّل الاعتبارات والمَواقف والمَواقع، فتنقلب معوّقات الديمقراطيّة والعلمانيّة والوحدة العربيّة، هي ذاتها مَنافِذ للأمل والخلاص.
هذا التناقُض والالتباس، هُما دلالة خَلَلٍ عميق اعتور الفكر العربي من بداية النهضة العربيّة الحديثة إلى اليوم، فقد جرى التعامُل مع مقولات الحداثة، الديمقراطيّة، القوميّة، العلمانيّة، الثقافة كمقولاتٍ من خارج السياق التاريخي للأمّة العربيّة، يجب استنباتها وتأصيلها وتبْيئتها في الفكر السياسي الاجتماعي وفي الواقع العربي، أي نقلها من سياقٍ تاريخي إلى سياقٍ تاريخي آخر مُختلف في بنيته وقيَمه ومَفاهيمه. ولهذا السبب بالذات تَراوح الفكر إزاء نموذجَين تراثي وحداثي، بين المُواجَهة والرَّفض، وبين الاقتباس والتوفيق، بين القلق والخوف من التغيير، وبين وجوب التغيير والصراع من أجله.
في هذا السياق طَرَحَ محمّد عابد الجابري في الثمانينيّات من القرن الماضي مقولةَ “الكتلة التاريخيّة” ككتلةٍ تَجمع فئاتٍ عريضة، تحكمها أهدافٌ واضحة في السياسة والاقتصاد والفكر. واستُعيدت هذه المقولة مَطلع هذا القرن، فقال خير الدّين حسيب بالتسوية التاريخيّة بين التيّارات الرئيسة في الأمّة، ودعا طارق البشري إلى إطارٍ جامِعٍ يَحضن جماعات الأمة وطوائفها ومكوّناتها كافّة، ويُبقي في الوقت نفسه على تعدُّدها. ونادى علي خليفة الكوّاري بإنشاء كتلة تاريخيّة تتشكَّل من إئتلاف التيّارات والقوى السياسيّة في كلّ قَطرٍ من الأقطار العربيّة على غرار الكتلة التي قال بها المفكّر الإيطالي أنطونيو غرامشي.
إلّا أنّ هذه الطروح جميعها لم تَفلح حتّى الآن في إنهاء التناقُض الإيديولوجي العميق في الفكر العربي، ولعلّ في ترجُّح هذا الفكر بين اليأس والأمل صورة لتعثُّر ولادة رؤية جديدة للنهضة كتحدٍّ وكفعلٍ وكمُعاناة، وليس كنتيجة وكردّ فعلٍ إزاء نموذج لا يزال استنباته وتأصيله يحتاجان إلى عمليّة قيصريّة.