ليبراليّة اليوم بين السيولة والتّفاهة

ليبراليّة اليوم بين السيولة والتّفاهة
Spread the love

شجون عربية_ بقلم: د. رفيف رضا صيداوي|

إذا كان المُصطلَحُ عبارةً عن دلالةٍ لفظيّةٍ عن مفهوم ما، يُصار إلى الاتّفاق عليه ليكسْب صفته الاصطلاحيَّة، فإنّ المفهوم أوسع نطاقاً من المُصطلح لكونه في جوهره عبارة عن فكرة عامّة، أو مجموعة من الصفات والخصائص الموضحة لمعنىً كُلِّيّ. وبالتالي، فإنّ أيّ بحث في إطار الفلسفة والعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة وغيرها، يقوم ويرتكز على توليد المفاهيم وتوظيفها في فهْم ظاهرة معيّنة أو تفسيرها. على أنّ هذه المفاهيم لا تكتسب دلالتها إلّا ضمن الإطار النظريّ العامّ لصاحبها.

لعلّ من بين أبرز المَفاهيم/ المَفاتيح التي صَقَلَها المُشتغلون عليها ووظّفوها في فَهْمِ ما طرأ من تحوّلات على سلّم القيَم أو على السلوكيّات والمُمارسات في مُختلف الجوانب الحياتيّة للمُجتمعات الرّاهنة، مفهومَيْ “الحداثة السائلة”، و”الميديوقراطيّة” بالإنكليزيّة Mediocracy وبالفرنسيّة La médiocratie. وقد آثَرَت د. مشاعل عبد العزيز الهاجري ترجَمَةَ المفهومِ الأخير إلى العربيّة بـ”نِظام التّفاهة”، ذلك التعبير الذي تُفيدنا المُترجِمة أنّه ظهر عام 1825، ويعني النِّظام الاجتماعي الذي تكون الطبقة المُسيطرة فيه هي طبقة الأشخاص التّافهين، أو الذي تتمّ فيه مُكافأة التّفاهة والرداءة عوضاً عن الجدّيّة والجودة.

المفهوم الأوّل (أي “الحداثة السائلة”) اشتغل عليه عالِم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان Zygmunt Bauman (1925 – 2017) وخصَّص له كِتاباً بعنوان Liquid modernity، صدر في العام 2000، والثاني (أي “الميديوقراطيّة”) تناوله الباحث وأستاذ الفلسفة الكندي آلان دونوAlain Deneault (1970 – ) في كِتابه La médiocratie الصادر عام 2015.

تبدو انعكاسات “السيولة” (بالفرنسيّة liquidité وبالإنكليزيّة liquidity) و”التّفاهة” واضحة، وتشي بها مُختلف المؤشّرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والحياتيّة بعامّة، وخصوصاً في عصر العَولَمة وما بعدها، لكونها شَملت العلاقات الإنسانيّة عموماً، وباتت تُشير إلى ارتفاع منسوب العصبيّة والنّزاع بين الجماعات البشريّة أكثر من إشارتها إلى اتّجاهات أكبر نحو التعايُش السلمي. وقد قامَ كلٌّ من الباحثَيْن “زيغمونت باومان” و”آلان دونو” بتأطير المَفهوم الذي اشتغل عليه، بالاستناد إلى أمثلة ووقائع وظواهر، لطالما كانت موجودة ومرئيّة، لكنّها باتت أكثر انتشاراً في العقود الثلاثة الأخيرة، وربّما أكثر تمظهُراً وتمأسُساً.

التقاء عالِم الاجتماع والفيلسوف

التقى عالِم الاجتماع بالفيلسوف في توظيف كلٍّ منهما المفهوم وربطه بالمَعيش واليومي لتفسير اشتغال نظامٍ اجتماعي حدَّدته عَولمةٌ صاروخيّة وليبراليّتها المتوحّشة؛ ذلك أنّ السيولة أو التّفاهة باتتا قاعدتَيْ هذا النّظام الاجتماعي، ينتظم هو بهما، وتنتظمان به وتجعلانه فعّالاً وذا سلطة. فنظام التّفاهة La médiocratie، وبعدما جرت نمْذجتُه، أي تحوُّله إلى أنموذج، بات “يؤسِّس لوسطٍ لا يعود فيه المُعتاد هو محض توليفٍ مُجرَّدٍ يسمح لنا بالوقوف على كُنه الأمور، بل يُصبح هو المعيار الذي نضطّر للخضوع له”. الفساد، تسليع المعرفة الأكاديميّة، المُمارسات التجاريّة البحتة، الفنّ الرخيص، تنميط العمل وتفريغه من مضمونه الإبداعي، أو لنستخدم تعبير الباحث في تنميط العمل حين وصفه بـ “المنزوع الحيويّة” بعد تحوّله من حرفة إلى وظيفة، ناهيك بالصحافة المُنتِجة لـ “أمّيّين جُدد”…إلخ، كلّها ظواهر تُنتجها المؤسّسات النّافذة (رسميّة أو خاصّة) في مجالات مُختلفة (الإعلام، التربية، الصحافة، الفنّ…)، بما يؤدّي إلى تقبّلها كبديهيّات ومُسلّمات تقبُّلاً تلقائيّاً بفعل نِظام التّفاهة الذي بات مُمأسَساً لكونه يخدم غايته الأساسيّة، وهي إنتاج الثروة. لكأنّ شعارَ هذا النّظام يتلخّص بما افتَتَحَ به آلان دونو كِتابه قائلاً: “ضعْ كُتبكَ المُعقّدة جانباً، فكُتبُ المُحاسبة صارت الآن أكثر فائدة. لا تكُن فخوراً، ولا روحانيّاً، ولا حتّى مرتاحاً، لأنّ هذا يُمكن أن يُظهركَ بمَظهر المغرور. خفِّف من شَغَفِكَ، لأنّه مُخيف. وقبل كلّ شيء، لا تقدِّم لنا “فكرة جيّدة” من فضلك، فآلة إتلاف الورق ملأى بها سلفاً”. أمّا جوهر كفاءة الشخص التّافه، فهو “القدرة على التعرُّف إلى شخصٍ تافهٍ آخر”، بحيث “يدعم التافهون بعضهم بعضاً، فيرفع كلٌّ منهم الآخر، لتقع السلطة بيد جماعةٍ تكبُر باستمرار”. ولأنّ العمل، أيّ عمل، هو مُفتاح الثروة، تتحوَّل أيّ وظيفة إلى وسيلة ضمن آليّة توجيه المُجتمع ككلّ إلى التفاهة، سواء أدرك الأفراد ذلك أم لم يُدركوه، لكنْ من دون أن يستدعي ذلك أو يفضي إلى جعل التافهين خاملين بالضرورة، ذلك “أنّهم يؤمنون بأنّهم يعرفون كيف يعملون بجهد: فالأمر يتطلَّب مجهوداً للخروج ببرنامجٍ تلفزيونيٍّ ضخم، أو لتعبئة طلب منحةٍ بحثيّةٍ مموَّلةٍ من وكالةٍ حكوميّة، (…) فالجودة التقنيّة لازمةٌ لإخفاء الكسل الفكريّ العميق الذي تنطوي عليه العديد من المِهن ذات العقيدة الامتثاليّة”.

في المُقابل، ولأنّه “لا وجود لمفهوم بسيط”، ولأنّ “كلّ مفهوم يملك مكوّنات، ويكون مُحدَّداً بها”، ولأنّ “كلّ مفهوم يحيل إلى مشكلة، وإلى مشكلات لن يكون له من دونها معنى” على حدّ تعبير الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (في كِتابه ما الفلسفة؟)، فإنّ مفهوم “السيولة” الذي اشتغل عليه زيغمونت باومان كصفة مُلحَقة بالحداثة، وكصورةٍ تشكِّل نموذجاً لنمط الحياة التي نحياها في الوقت الرّاهن، مكّنه بالتالي من بناء نموذجٍ تحليلي تفسيري لمجالات الحياة الإنسانيّة، وقراءة كيفيّة تسرّب هذه السيولة إليها، فضلاً عن الهشاشة التي تصيب المُجتمع الحديث والعلاقات الاجتماعيّة. وتتحدَّد هذه الحداثة السائلة بكونها “نفياً قطعيّاً للحداثة الصَّلبة”، ذاب معها “ميراث الحداثة الصَّلبة كلّه في أثناء الإذابة والتمييع”. ذلك أنّه إذا كان جوهر الحداثة في مرحلة الصلابة يتمثّل برأيه” في التحكُّم في المستقبل وتثبيته، فإنّ شغلها الشاغل في مرحلة السيولة إنّما يتمثّل في ضمان استقلال المُستقبل وحريّته”، وذلك في سياقٍ من “التحديث الوسواسي القهري”. نظام الحداثة السائلة هذا، المُغايِر للحداثة الصلبة، والذي أعلن أنّه يمثِّل نهاية التاريخ، “سعى جاهداً إلى أن يجعل هذا الإعلان نبوءة تُحقِّق نفسها، مؤكِّداً غياب أيّ بديل له”.

ففي ظلّ حالة السيولة هذه “كلّ شيء يُمكن أن يَحدث، ولكن لا شيء يُمكن أن نفعله في ثقة واطمئنان، فتولَدُ حالةٌ من اللّايقين تَجمع بين الإحساس بالجهل (استحالة مَعرفة ما سيُحدث) والعجز (استحالة منْع ما سيَحدث)، والإحساس بالخوف الذي ينبثّ في النفوس من دون أن تستطيع إدراكه ولا تحديده ولا وصفه”.

حين يستدعي المفهومُ نَظيرَه

هكذا استدعى مفهومُ “السيولة” لدى زيغمونت باومان مفاهيم التحرُّر، والفرديّة، والزمان/ المكان، والعمل، والجماعة، في رصْده الوضع الإنساني اليوم، بقدر ما استدعى مفهوم “التفاهة” لدى دونو مفاهيم الأكاديميا، والثقافة والحضارة والمعرفة، والعمل، والابتكار، والإدارة والشراكة، والحَوكمة، والخصْخَصة والربح وغيرها من المفاهيم الخاصّة بحقولٍ معرفيّة أخرى، كالاقتصاد مثلاً كما هو مبيَّن، وجرى إدراجها في منظومة مفاهيميّة سوسيولوجيّة أو فلسفيّة. فالمفهوم بقدر ارتباطه بحقله المعرفيّ، يرتبط أيضاً بخلفيّة الذي أبدعه أو استخدمه أو اشتغل عليه، سواء أكان عالِم اجتماع أم فيلسوفاً أم عالِم اقتصاد أو غيره. حيث لا يُمكن تصوُّر إشكاليّةٍ ما خارج نَسقٍ من المفاهيم. إذ إنّ للمفاهيم “صيرورة” تخصّ علاقتها بالمَفاهيم الأخرى التي تقع – بحسب دولوز – على المسطّح ذاته، وتترابط ببعضها وتتوافق في ما بينها، وتُنسِّق حدودها، وتُركِّب مُشكلاتها المُتبادلة، كما يتوفّر المفهوم على عدد نهائي من المكوّنات ويتفرَّع نحو مفاهيم أخرى. هكذا بدا مفهوما “السيولة” و”التفاهة” من بين المَفاهيم التي ساعدت على فهْم ما أفضت إليه عمليّة التحديث التي شملت العالَم من اضطّرابات واختلالات تُنبئ بالقضاء التامّ على أيّ قيمة اجتماعيّة وإنسانيّة وأخلاقيّة، بعدما أضحت الحداثةُ المزعومةُ تُطلق العنان لعمليّة التغيير والتقدُّم من دون تعيين هدفٍ نهائي في الأُفق. فتغدو “السيولة” و”التفاهة” ضرورتَيْن لتبعثُر العالَم ولاستمرار تفتُّته وميوعته على الصعد كافّة، بقدر ما يمثِّل هذا التبعثُر نتيجةً لهما.

أمّا سائر المقولات والمفاهيم التي تكاثفت على مدى العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية، فما هي إلّا محاولات لفَهْم هذا العالَم وسياساته واقتصاداته وأنماط عيش الناس فيه التي باتت لا تُطاق ولا تُحتمل، أقلّه بسبب ما تبثّه هذه السياسات والاقتصادات وأنماط العيش من سموم تُسيء إلى البشر، من دون أن أعني بكلمة “سموم” تلك التي أفرزها التطوُّر التكنولوجي وما ألحقه من أضرار بالبيئة وبكوكب الأرض وصحّة البشر، بل تلك السموم التي تُمعن قتلاً بما تبقّى في الإنسان على هذه الأرض من طبيعة خيِّرة.