العلاقات الأميركية – الإيرانية (1944-2011)

العلاقات الأميركية – الإيرانية (1944-2011)
Spread the love

خاص “مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط” — بقلم: د. هيثم مزاحم — تعود بداية العلاقات السياسية بين إيران والولايات المتحدة الأميركية إلى أواخر القرن الثامن عشر، عندما بعث شاه فارس ناصر الدين شاه أول سفير لبلاده ميرزا أبو الحسن شيرازي إلى واشنطن في عام 1856. وفي عام 1883 كان صمويل بنجامين أول مبعوث دبلوماسي رسمي للولايات المتحدة في إيران. وتم الإعلان عن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين رسميا في عام 1944.

وكان لإيران في خلال عهد الشاه محمد رضا بهلوي (1953 – 1979) أهمية إستراتيجية واقتصادية محورية لدى الولايات المتحدة الأميركية بموقعها كمفترق طرق بين ثلاث مناطق حيوية: الشرق الأوسط وجنوب آسيا والاتحاد السوفياتي. كما كانت واشنطن أحد أبرز الشركاء التجاريين لطهران، إذ كانت هذه العلاقة الاقتصادية تؤمن آلاف فرص العمل للمواطنين الأميركيين ونحو ثلاثة مليارات دولار كعائدات سنوية للصادرات الأميركية إلى إيران، إضافة إلى الأرباح التي كانت تحققها الشركات النفطية الأميركية من استثماراتها وتجارتها في حقل النفط الإيراني.

لكن سقوط نظام الشاه في شباط/ فبراير 1979، وقيام جمهورية إسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني، وما نتج بعد تلك من تطورات مثل: أزمة احتجاز الرهائن الأميركيين في السفارة الأميركية في طهران بين عامي 1979 و1980، وتجميد الأرصدة الإيرانية في المصارف الأميركية، أسفرت عن تدهور العلاقات بين البلدين وانقطاعها في نيسان/إبريل 1980.

وقد أجّجت الحرب العراقية – الإيرانية التي اندلعت منذ أيول/سبتمبر 1980، والدعم الأميركي للنظام العراقي آنذاك، العداء بين طهران وواشنطن، وخصوصاً إثر الاستهداف الأميركي لبعض المنشآت البحرية النفطية الإيرانية بين عامي 1987 و1988 وإسقاط الطائرة المدنية الإيرانية (290 قتيلاً) فوق مياه الخليج عام 1988.

ومن الجانب الأميركي، فقد جاء سقوط الشاه ليضعف استراتيجية الولايات المتحدة في منطقة الخليج، الأمر الذي جعلها تغيّر سياستها تجاه العراق فتدعم نظام صدام حسين في الحرب مع إيران. ومثلما حملت الذاكرة الإيرانية واقعة 1953. ظلت واقعة احتجاز الرهائن الأميركيين – التي أنهت حكم الرئيس جيمي كارتر – ماثلة في الذاكرة الأميركية. كما أن ضلوع إدارة الرئيس رونالد ريغان في صفقة سلاح مع إيران المعروفة بفضيحة “إيران كونترا” قد أضافت إلى مخزون الذاكرة الأميركي عنصراً إضافيًا ؛ حيث صارت إيران مسؤولة عن تشويه صورة رئيس بفضيحة سياسية كبيرة.

وهكذا اتسمت العلاقة بين الدولتين في العقود الثلاثة الماضية بالعداء الشديد وتبادل الاتهامات. وإذا كانت إيران أطلقت لقب “الشيطان الأكبر” على الولايات المتحدة(3)، فإن هذه الأخيرة وصفت إيران الدولة “الخارجة عن القانون: ومركز “الإرهاب العالمي” وقاعدة “الأصولية” في العالم الإسلامي.

وساهم في وصم إيران بهذه النعوت الدعوات الحماسية التي أطلقها القادة الإيرانيون لتصدير الثورة إلى دول العالم الإسلامي كافة، ودعم وتمويل بعض الحركات الإسلامية، وخصوصاً في فترة الحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988). ولا ريب أن الخطاب الثوري الإسلامي أثار قلق معظم الأنظمة العربية وحلفائها الغربيين، وخصوصاً الولايات المتحدة، التي رأت في الجمهورية الإسلامية الإيرانية خطراً على مصالحها الإستراتيجية والاقتصادية في منطقة الخليج.

استمد هذا الخطاب الإسلامي الثوري مبرّرات عدائه للولايات المتحدة من واقع السياسات الأميركية تجاه إيران والمنطقة العربية – الإسلامية، القائمة على استغلال الشعوب ونهب ثرواتها والتآمر على الحكومات المعارضة لها، وانحيازها الكامل لإسرائيل في احتلالها الأراضي الفلسطينية والسورية واللبنانية والاعتداء على شعوبها.

كما أن التجربة التاريخية الإيرانية نفسها غنية بالأمثلة على السياسات العدوانية والاستعمارية (الاستكبارية) الأميركية: من عملية الاستخبارات المركزية الأميركية “أجاكس” التي أطاحت حكومة محمد مصدق عام 1953 وأعادت الشاه إلى السلطة، إلى الامتيازات والصفقات التجارية والنفطية والعسكرية التي حصلت عليها أميركا من نظام الشاه والتدريب الأميركي لأجهزة السافاك الإيرانية والدعم الأميركي للعراق في حربه ضد إيران؛ وإسقاط الطائرة المدنية الإيرانية عام 1988؛ إلى سياسة الاحتواء المزدوج ضد إيران (والعراق) منذ أيار/مايو 1993؛ ثم سياسة الحظر الاقتصادي الشامل على إيران منذ أيار/مايو 1995 والتي ألحقت بقانون “الفونس داماتو” في العام 1996 الذي يقضي بفرض عقوبات اقتصادية على الشركات الأجنبية التي تستثمر في إيران بما يزيد عن 20 مليون دولار في السنة، إلى دعم المعارضة الإيرانية المسلحة (مجاهدي خلق) وتمويلها لأجل إسقاط النظام الإسلامي في إيران؛ وإقرار الكونغرس موازنة قدرها نحو 20 مليون دولار لتمويل أنشطة وكالة الاستخبارات المركزية ضد إيران منذ عام 1995، وصولاً إلى القانون الذي وقعه الرئيس الأميركي باراك أوباما في مارس/آذار 2010، والذي يفرض عقوبات قاسية جديدة على قطاعي الطاقة والبنوك في ايران على أمل كبح النشاط النووي الإيراني، وانتهاء بالعقوبات الأميركية الأخيرة التي شملت وضع كل من الخطوط الجوية الإيرانية (إيران إير) وشركة تسيير الموانئ (تايدووتر) على القائمة السوداء، وذلك في إطار زيادة الضغط على طهران وإرغامها على تعليق برنامجها النووي.

في الواقع، إن تركة العلاقات الأميركية – الإيرانية مثقلة بانعدام الثقة والشك المتبادل بين البلدين من جهة، وبمجموعة من الخلافات السياسية والأمنية والاقتصادية والمالية من جهة أخرى.

وعلى أي حال، إذا قررت الحكومتان الإيرانية والأميركية الشروع في تنفيذ إجراءات لبناء الثقة بينهما، ثم مباشرة التفاوض لحل مسائل النزاع المختلفة والمتعددة وتقريب وجهات النظر، فإن تطبيع العلاقات بين البلدين ممكن ومفيد لكل منهما. وقبل مناقشة احتمالات استئناف العلاقات الثنائية بين الدولتين، ينبغي عرض أهم مسائل الخلاف وتحليلها من وجهة نظر كل طرف على حدة.

مسائل الخلاف من وجهة نظر إيرانية

إن أبرز مسائل الخلاف بين الولايات المتحدة وإيران من وجهة نظر هذه الأخيرة هي الآتية:

1 – الأرصدة الإيرانية المجمدة في المصارف الأميركية منذ أزمة الرهائن الأميركيين عام 1979، والتي تقدر قيمتها بنحو 12 مليار دولار أميركي. وتعتبر طهران أن الإفراج عن هذه الأرصدة شرط أساس لتطبيع العلاقات مع واشنطن.

2 – التدخل الأميركي في الشؤون الداخلية الإيرانية، وخصوصاً التدخل الاستخباراتي ودعم المعارضة الإيرانية المسلحة، وتضع الحكومة الإيرانية وقف هذا التدخل في مقدم شروطها للتقارب مع الولايات المتحدة، كما يمثل ذلك بالنسبة إليها دليلاً على تبدل السياسة الأميركية العدائية تجاهها.

3 – الحظر التجاري والتكنولوجي والعسكري الشامل المفروض على إيران تدريجاً منذ العام 1993 الذي يزعزع استقرارها الاقتصادي ويعوق إعادة بناء قدراتها العسكرية “الدفاعية” التي دمرت في خلال الحرب مع العراق. وترى طهران في هذا الحظر حرباً اقتصادية أميركية معلنة ضدها، وتعتبر أن أول خطوة ينبغي أن تبادر واشنطن إليها كدليل حسن نية تجاه إيران، تتمثل في إلغاء هذا الحظر.

4 – الوجود العسكري الأميركي في مياه الخليج، الذي تعارضه إيران لأنه يهدد أمن دول المنطقة وسيادتها، وتطالب بان تتولى الدول المطلة على الخليج حماية أمنه من خلال التعاون المشترك في ما بينها.

5 – المعارضة الأميركية لمرور أنابيب نفط بحر قزوين والغاز من دول آسيا الوسطى عبر إيران، وهي جزء من الحظر الاقتصادي الأميركي على إيران.

أسباب الخلاف من وجهة نظر أميركية

تطرح الإدارة الأميركية أسباباً عدة، تراها مترابطة في ما بينها، لتبرير سياستها العدائية تجاه إيران والعقوبات الاقتصادية التي تفرضها عليها. وترى أن تسوية أهم مسائل النزاع سيؤدي إلى حل المسائل الأخرى المتفرعة عنها. وأبرز الاعتراضات الأميركية على السياسات الإيرانية هي الآتية:

1 – “الرعاية الإيرانية للإرهاب الدولي” إذ لا تزال واشنطن تضع إيران على لائحة الدول الإرهابية وتتهمها بتقديم الدعم والتمويل لبعض الحركات الإسلامية والوطنية التحررية التي تصنفها الإدارة الأميركية بـ”الإرهابية”، ولا سيما حركات المقاومة اللبنانية والفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وخصوصاً “حزب الله” اللبناني وحركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي” الفلسطينيتان. وتشترط الإدارة الأميركية تغيير إيران سياستها في هذا الشأن، أي التخلي عن قيامها بأي أعمال “إرهابية” وعن دعمها لهذه الحركات وذلك لأجل تحسين العلاقات بين البلدين.

2 – المعارضة الإيرانية لعملية التسوية العربية – الإسرائيلية وموقفها الإيديولوجي – السياسي الرافض لوجود إسرائيل. وترى الإدارة الأميركية في التحالف الاستراتيجي الإيراني – السوري دعماً لحركات المقاومة التي تصنفها واشنطن “إرهابية” وعرقلة لعملية السلام في الشرق الأوسط. وترتبط هذه المسألة كلياً بالمسألة السابقة. وكلاهما يتعلق بإسرائيل مما يجعلهما في طليعة الأسباب التي تحول دون تغيير السياسة الأميركية تجاه إيران ودون الشروع في حوار مباشر لاستئناف العلاقات.

3 – السعي الإيراني لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، وخصوصاً الأسلحة النووية (بحسب الزعم الأميركي)، مما يمثل بالنسبة إلى الولايات المتحدة تهديداً كبيراً لأمن المنطقة واستقرارها وللمصالح الأميركية فيها، وتهديداً لأمن إسرائيل وتفوّقها العسكري النوعي. وتعد مواصلة طهران لسياسة التسلح أهم أسباب الحظر الاقتصادي الأميركي الشامل المباشر (وغير المباشر) عليها، عبر ضغوط وعقوبات على الدول والشركات التي تتعاون تجارياً وعسكرياً وتكنولوجياً معها مثل روسيا والصين والدول الأوروبية.

5 – الاتهامات الأميركية بانتهاك حقوق الإنسان والحريات في إيران.

انتخاب خاتمي وسياسة الانفتاح

عزّز انتخاب الرئيس الإيراني الإصلاحي محمد خاتمي في أيار/مايو 1997 من احتمالات تحسّن العلاقات الإيرانية – الأميركية نتيجة مبادراته الإعلامية والسياسية تجاه الدول العربية والغربية، وخصوصاً المقابلة التي أجرتها معه شبكة “سي أن أن” (CNN) الأميركية في كانون الثاني/يناير 1998 وأشاد فيها بالشعب الأميركي “العظيم” وأعرب عن تقديره للحضارة الأميركية واعتذر ضمناً عن احتجاز الرهائن الأميركية في طهران (1979 – 1980)(13). غير أن الاستجابة الأميركية لهذه الرسالة الإيرانية كانت محدودة، إذ تمثلت بالترحيب بانتخاب السيد خاتمي وتقدير رصيده الشعبي الانتخابي وانفتاحه السياسي الداخلي والخارجي، إضافة إلى الإعلان الكلاسيكي عن استعداد الإدارة الأميركية للتفاوض مع الحكومة الإيرانية لاستئناف العلاقات الثنائية.

لكن السياسة الأميركية المتشددة ضد إيران بقيت على حالها، بل إن واشنطن شددت إجراءات العقوبات التجارية ضدها وضد الشركات الأجنبية المتعاملة مع طهران، وأسست إذاعة معادية لإيران في مدينة براغ بتمويل من الكونغرس الأميركي، وواصلت رفضها لمشروع مرور أنابيب النفط والغاز من بحر قزوين وآسيا الوسطى عبر الأراضي الإيرانية.

وقد ساهمت هذه السياسة الأميركية في تعزيز موقف الجناح الإيراني المتشدد في رفضه لعودة العلاقات مع “الشيطان الأكبر”، لأن الولايات المتحدة لن تغير سياستها العدوانية تجاه إيران ولن تتخلى عن محاولاتها التدخل في الشؤون الإيرانية والتآمر لإسقاط النظام الإسلامي حتى لو تراجعت إيران عن خطابها المعادي لأميركا وعن بعض المواقف والسياسات التي تنتقدها واشنطن وتعترض عليها.

وقد اضطر الرئيس خاتمي وحكومته إلى محاكاة الخطاب المتشدد الذي يندد بالسياسة الأميركية تجاه إيران، مستبعداً تحسن العلاقات مع الولايات المتحدة في المدى القريب.

والواقع إن حكومة الرئيس خاتمي كانت مقيّدة في انفتاحها على واشنطن بمعارضة الجناح المحافظ في النظام الإيراني، ومرشد الجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي، صاحب السلطة العليا في الدولة بمقتضى الدستور. وكان المحافظون حينها يسيطرون على مجلس الشورى الإيراني (البرلمان) وعلى الأجهزة القضائية وجهاز حرس الثورة الإسلامية وعلى غيرها من المجالس والأجهزة التي كان يمكنها عرقلة السياسات الإصلاحية لحكومة خاتمي داخلياً، وتقاربها مع الولايات المتحدة.

غير أن معارضة المحافظين للعلاقات مع الولايات المتحدة ليست مطلقة، ذلك أنها ترتبط بمدى تبدل السياسة الأميركية تجاه إيران من جانب، وبشروط التسوية مع واشنطن من جانب آخر. إذ يخشى هذا الجناح أن يؤدي التقارب الإيراني – الأميركي إلى تقديم تنازلات تمس طبيعة النظام الإسلامي والشؤون الداخلية الإيرانية والمواقف الإيديولوجية الإسلامية تجاه الغرب وإسرائيل التي أطلقها الإمام الخميني.

ويعلّل هؤلاء رفضهم للحوار والتفاوض مع الولايات المتحدة باستمرار سياسة العقوبات الأميركية تجاه إيران(18)، علماً أن هذه السياسة نفسها تعرضت للنقد في دوائر أميركية واسعة وشملت مسؤولين في وزارتي الخارجية والتجارة وأعضاء كونغرس وأكاديميين وصحافيين، وخصوصاً رجال الأعمال والمزارعين الأميركيين، الذين رأوا أن مصالحهم التجارية قد تضررت نتيجة لسياسة العقوبات.

وذهب بعض هؤلاء إلى أن عزل إيران وفرض عقوبات اقتصادية عليها لم يؤثرا كثيراً في تغيير سياساتها، في حين أنه أضر بالمصالح الاقتصادية الأميركية، وأفاد الشركات الأوروبية واليابانية والآسيوية المنافسة التي عقدت صفقات تجارية ونفطية مع إيران بمليارات الدولارات.

مبرّرات السياسة الأميركية تجاه إيران

تقوم الإستراتجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط على ثلاثة أركان رئيسية هي:

1 – حماية منابع النفط وطرقه بما يضمن استمرار تدفقه إلى الغرب، وخصوصاً إلى الولايات المتحدة، بأسعار متدنية وثابتة نسبياً.

2 – بقاء المنطقة سوقاً استهلاكية للسلع والخدمات الأميركية، ولا سيما الأسلحة منها.

3 – حماية حلفاء الولايات المتحدة وضمان استقرار الأنظمة الموالية لها، وضمان أمن إسرائيل وتفوقها العسكري على دول المنطقة كافة.

وقد شكلت إيران في عهد الشاه سداً أميركياً أمام محاولات الاتحاد السوفياتي للوصول إلى منابع النفط في الخليج. وبعد سقوط الشاه والغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979 بقيت إيران مهمة استراتيجياً لمواجهة السوفيات، في نظر الأميركيين.

وعلى الرغم من التغيّرات التي شهدها العالم منذ انتهاء الحرب الباردة، بفعل انهيار الاتحاد السوفياتي وزوال الخطر الشيوعي ونشوء وضع دولي جديد بقيادة الولايات المتحدة، إلا أن السياسة الأميركية الشرق أوسطية بقيت على حالها من دون أي تغيير جذري. لأن النفط لا يزال في صدارة المصالح الاستراتيجية والاقتصادية الأميركية، وكذلك السوق الخليجية المستهلكة للصادرات الأميركية وخصوصاً الأسلحة، إضافة إلى ثبات مكانة إسرائيل وأهميتها بالنسبة إلى الأميركيين.

وقد حاولت بعض النخب المؤثرة في صناعة القرار الأميركي التقليل من أهمية إيران الإستراتيجية الإقليمية والدولية، والمبالغة في “الخطر الإسلامي” الذي تشكله إيران وبعض الحركات الإسلامية على المصالح الأميركية في المنطقة، وتصويره كخطر مماثل للخطر الشيوعي السابق.

وكان لإسرائيل واللوبي الصهيوني المؤيد لها الدور الأكبر في الترويج لهذه الفكرة بعدما خشيت الدولة العبرية من تراجع مكانتها الاستراتيجية بعد غياب التهديد السوفياتي.

وهكذا عادت واشنطن لسياسة الاحتواء السابقة لمواجهة تهديدات قوى إقليمية بارزة في المنطقة وخصوصاً العراق وإيران، وبعدما كانت سياسة أميركا لاحتوائهما في الثمانينات 1980 – 1988 تقوم على تسعير الحرب بين الطرفين واستخدام كل طرف منهما لإضعاف الطرف الآخر.

بعد انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية، وبروز العراق قوة إقليمية ذات قدرات عسكرية وتكنولوجية تهدد استقرار المنطقة وأمنها، ومصالح الولايات المتحدة وحلفائها والتفوق العسكري الإسرائيلي، قدم احتلال العراق الكويت في آب/أغسطس 1990 ذريعة مناسبة لتفكيك هذه القدرات في حرب “عاصفة الصحراء” عام 1991(28) وفي الحظر الدولي عليه، ثم في أعمال لجنة نزع أسلحة الدمار الشامل (يونسكوم)، إلى العمليات العسكرية الأميركية المتقطعة عليه، وصولاً إلى الغزو الأميركي المباشر في مارس/ آذار 2003.

بعد قيام واشنطن بإطلاق عملية التسوية العربية – الإسرائيلية في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، لحل القضية الفلسطينية والصراع العربي – الصهيوني وترتيب نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط، لم يبقَ في نظر الإدارة الأميركية واللوبي الصهيوني وإسرائيل من يخل بأمن المنطقة واستقرارها إلى جانب الحركات المناهضة لهذه العملية السلمية إلاّ إيران، إضافة إلى امتلاك إيران قدرات بشرية واقتصادية وعسكرية كبيرة تجعلها إلى سعيها لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، قوة إقليمية تهدد المصالح الأميركية في المنطقة (النفط والأنظمة الحليفة وإسرائيل).

ولاحتواء التهديد الإيراني ومواصلة احتواء التهديد العراقي، أعلنت إدارة كلينتون – بتأثير من إسرائيل واللوبي الصهيوني في واشنطن – سياسة الاحتواء المزدوج لإيران والعراق في أيار/مايو 1993، وهي سياسة وضعها مارتين إنديك، أحد المسؤولين اليهود في الإدارة الأميركية.

ومع فشل هذه السياسة لاحقاً، وعجزها عن منع إيران من تنمية قدراتها العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية ظلت إسرائيل وأنصارها في واشنطن يضغطون على الإدارة والكونغرس الأميركيين طوال عامين متتالين من أجل تشديد سياسة الاحتواء ضد إيران. فاستجاب هؤلاء بفرض حظر اقتصادي على إيران في 30 نيسان/أبريل 1995، أعلنه الرئيس كلينتون من على منبر المؤتمر اليهودي العالمي. رغبة منه في توظيف هذا القرار في الحصول على دعم وتمويل اللوبي اليهودي في الانتخابات الرئاسية.

وكانت الإدارة الأميركية قد أوقفت صفقة شركة “كونوكو” النفطية الأميركية مع إيران في آذار/مارس 1995، بطلب من رئيس المؤتمر اليهودي العالمي إدغار برونغمان، كما كشف الكاتب الأميركي – اليهودي أ.م.روزنتال في صحيفة نيويورك تايمز.

ولم يكتفِ اللوبي الإسرائيلي بالحظر الاقتصادي على إيران عبر فرض عقوبات على الشركات الأميركية التي تتعامل معها، إنما أصدر الكونغرس في العام 1996 أيضاً قانوناً لمعاقبة الشركات التي تتعامل مع إيران. ومع أن الإدارة الأميركية لم تكن موافقة على هذا القانون الذي يُسبب لها مشكلات مع أصدقائها الأوروبيين والآسيويين والروس، إلا أنها رضخت لضغوط الكونغرس واللوبي وقبلت بالقانون بعد تعديله.

وهكذا فرضت الحكومة الأميركية عقوبات على عدد من الشركات الأجنبية التي استثمرت في إيران، وكذلك على الشركات الروسية لبيعها تكنولوجيا عسكرية إلى إيران.

وقد خلص المساعد السابق لوزير الخارجية الأميركية، ريتشارد مورفي، في شباط/فبراير الماضي (1999)، إلى أن الوقت قد حان لتفكيك نظام العقوبات ضد إيران. لكنه كشف أن تحقيق ذلك “يعتمد على مدى رغبة إسرائيل في تغيير سياستها حيال إيران وعندها سيحدث تغيير سريع ومماثل في واشنطن”، مشيراً إلى أن الموقف الأميركي المتجدد يعكس نفوذ إسرائيل وأصدقائها في الكونغرس.

تأثير سياسة العقوبات في المصالح الاقتصادية الأميركية

قبل إقرار الإدارة الأميركية لسياسة الاحتواء المزدوج عام 1993 ومن بعدها سياسة الحظر الاقتصادي الشامل عام 1995، كانت الولايات المتحدة منذ أوائل التسعينات أحد أبرز الشركاء التجاريين لإيران، حيث اعتبرت رابع مصدّر للبضائع إليها.

بلغت قيمة الصادرات الأميركية إليها عام 1991 نحو 527 مليون دولار أميركي وكان يتوقع أن تصل إلى نحو 800 مليون دولار أميركي عام 1993، فيما بلغت مشتريات الشركات الأميركية من النفط الإيراني أربعة مليارات دولار أميركي عام 1994، إذ كانت هذه الشركات النفطية تشتري نحو ثلث النفط الخام الإيراني لتعاود بيعه في الأسواق العالمية. ويكفي أن نذكر أن شركة توتال الفرنسية التي تقود “كونسورتيوم” فرنسياً – ماليزياً – روسياً حصلت عام 1998 على مشروع بقيمة ملياري دولار للاستثمار في حقول النفط في إيران. كما حصلت شركتا “ألف” الفرنسية و”اجيب – ايني” الإيطالية في آذار/مارس الفائت 1999 على صفقة بقيمة 540 مليون دولار، لاستغلال حقل “دورود” النفطي الواقع في الخليج، ووقعت أيضاً شركة “ألف” وشركات “باوفالي” الكندية عقداً نفطياً مع إيران بقيمة 300 مليون دولار.

وقد تعرض نظام العقوبات الاقتصادية الأميركية المفروض على إيران لضغوط من قبل قوى وأطراف فاعلة في المجتمع الأميركي دعت إلى إعادة النظر فيه لأنه لم ينجح في تعديل سلوك طهران فضلاً عن كونه ألحق أضراراً اقتصادية وسياسية بالولايات المتحدة. وبعد انتخاب الرئيس خاتمي كثف قطاع الأعمال الأميركي ضغوطه على الإدارة والكونغرس الأميركيين لتخفيف العقوبات أو استثناء بعض الشركات والسماح لها بالتعامل مع إيران. وقد استجاب عشرات من أعضاء الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديموقراطي لضغوط رجال الأعمال والمزارعين الأميركيين المتضررين من نظام العقوبات، إذ وجهوا رسالة إلى الرئيس بيل كلينتون طالبوه فيها بالسماح لشركات أميركية بيع إيران مواد زراعية بقيمة تزيد عن نصف مليار دولار، استجابة إلى ضغوط المزارعين في الكونغرس الذين صوتوا مع نظام العقوبات ضد إيران عام 1995 باعتباره “تصويتاً سهلاً ضد الإرهاب” على حد قول المساعد السابق لوزير الخارجية الأميركي، روبرت بيليترو.

وأسفرت هذه الضغوط في نهاية نيسان/أبريل 1999 عن موافقة الإدارة الأميركية على رفع جزئي لسياسة الحظر يسمح باستثناء الأغذية والأدوية من نظام العقوبات ضد الدول المفروض عليها. ورغم انطباق تخفيف العقوبات على دول عدة إلا أن المقصود عملياً كان إيران لأن استيرادها لحاجتها من المواد الغذائية يصل إلى مليار دولار سنوياً.

ونفى وكيل وزارة الخارجية للشؤون الاقتصادية، ستيورات أيزنستات، أن يكون القرار مثابة رسائل سياسية إلى دول معنية مؤداها أن واشنطن ترغب في تحسين العلاقات معها، ورأى أن القرار جاء نتيجة لمراجعة عامة لسياسة العقوبات الاقتصادية شارك فيها مختلف الأجهزة الحكومية على مدى سنتين، حيث تبين أن بيع الأدوية والأغذية “لا يعزز القدرات العسكرية لهذه الدول أو قدرتها على الإرهاب” ولا يؤثر في تغيير سلوكها.

ورفضت الإدارة الأميركية، في اليوم التالي لقرارها الحظر الغذائي، الموافقة على طلب شركة “موبيل” النفطية استثنائها من نظام الحظر في صفقة مقايضة تقضي بنقل كميات كبيرة من النفط الذي تنتجه من حقول تستثمرها في حوض بحر قزوين ودول آسيا الوسطى إلى شمال إيران، في مقابل كميات مماثلة من النفط الإيراني يتم شحنها من موانئ إيران المطلبة على الخليج. كما جددت واشنطن معارضتها لاتفاق تركي – إيراني، يعود إلى العام 1996، يقضي بتزويد طهران الغاز لأنقرة عبر خط أنابيب مشترك، ذلك في أوائل أيار/مايو 1999.

مراجعة السياسة الأميركية حيال إيران

رأى بعض المسؤولين الأميركيين أن رفع الحظر الغذائي هو خطوة في اتجاه تطبيع العلاقات مع ليبيا وإيران والسودان، وتجسيد لفشل سياسة العقوبات تجاه هذه الدول، بفعل تغيّر الظروف الدولية. واعتبرت جوديت كبير، خبيرة شؤون الشرق الأوسط في مؤسسة “بروكينغز” الأميركية، أن هذه “الخطوة مهمة جداً ومتأخرة كثيراً. وسيكون لها وقع خاص على طهران التي تترقب الإشارات الأميركية للتسوية”.

وقال بعض المحللين الأميركيين إن هذا التبدل “الكبير” في سياسة العقوبات جاء بعد مرحلة أصبحت فيها هذه السياسة موضع استفهام ونقد، إذ فاوضت الشركات الأميركية المتضرّرة وممثلوها في الكونغرس، مع الإدارة الأميركية والمعارضين فيها لهذه السياسة، لإصلاح تشريع العقوبات والتخلي عنه بشكل كلي بسبب إضراره بالمصالح الاقتصادية الأميركية.

واللافت أن مساعد وزيرة الخارجية الأميركية، مارتين أنديك نفسه، مهندس سياسة الاحتواء المزدوج عام 1993 بوصفه رئيساً لمجلس الأمن القومي آنذاك، كشف في محاضرة له في نيسان/أبريل 1999، أن الإدارة الأميركية تقوم بمراجعة سياستها تجاه إيران بعد التغير الكبير الذي شهدته السياسات الإيرانية داخلياً وخارجياً منذ بداية عهد خاتمي.

وكان الرئيس الأميركي، كلينتون، قد اعترف أيضاً في نيسان/أبريل 1999 “بأن إيران تعرضت – بسبب أهميتها الجيوسياسية الكبيرة على مر الزمن، إلى كثير من الظلم من مختلف الدول الغربية” داعياً إلى إيجاد وسيلة لبدء حوار معها من أجل بناء “مستقبل مشترك”.

وقد رحبت الحكومة الإيرانية “باعتذار” كلينتون، مؤكدة أنها لن تكتفي بـ”ابتسامة دبلوماسية بسيطة” بل تطالب بتغيير في السلوك الأميركي لا في الخطاب فحسب. لكن الجناح الإيراني المحافظ شكك بكلام كلينتون على قاعدة كونه ليس سوى خدعة وتضليل في إطار السياسة الأميركية القائمة على “التناقض بين الخطاب والممارسة”، مؤكداً أن “أميركا هي نفسها منذ عشرين سنة ولن تتخلى عن عدائيتها تجاه إيران”(46). وكانت واشنطن قد استنكرت عملية اغتيال نائب رئيس الأركان الإيراني اللواء علي صياد شيرازي في طهران على يد حركة “مجاهدي خلق” وإدانته بوصفه “عملاً إرهابياً”، مشيرة إلى أن هذه الحركة مدرجة منذ العام 1997 على لائحة الإرهاب التي تصدرها الولايات المتحدة، كما نفت أن تكون الحكومة الأميركية تؤيد هؤلاء الإرهابيين، أو تقدم ملاذاً آمناً لهم على الرغم من وجود مكتب صحافي لهم في واشنطن.

مثلت هذه الإشارات الأميركية الثلاث (استنكار اغتيال شيرازي واعتذار كلينتن الضمني وثم التخفيف الجزئي للعقوبات الاقتصادية) رسالة تودد أميركية إلى إيران، إلا أنها لم تكفِ لدفع طهران إلى حوار مباشر مع الإدارة الأميركية على الرغم من مطالبة أوساط سياسية وإعلامية وأكاديمية إيرانية الحكومة التفاوض مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق مصالح الشعب الإيراني.

العقبات الرئيسة في وجه تطبيع العلاقات الإيرانية – الأميركية

إن المسائل الخلافية الأساسية بين إيران والولايات المتحدة هي المسائل الثلاث الأولى المذكورة أعلاه والمتعلقة بإسرائيل وأمنها وتفوقها العسكري، وهو ما يجعل تسوية هذه المسائل عملية معقدة نتيجة ارتباط المصالح الأميركية بالمصالح الإسرائيلية. ومع ذلك، فقد كانت ثمة مساعٍ في محطات مختلفة لفتح باب التفاوض الثنائي المباشر، أو غير المباشر، لتعبيد الطريق أمام تطبيع العلاقات بين طهران وواشنطن. إلا أن عقبات حالت، ولا تزال دون تحسن هذه العلاقات، لا بل زادتها سوءاً وعدائية.

وتزعم الولايات المتحدة أن العقبات الرئيسة أمام تغيير سياستها تجاه إيران هي السياسات الإيرانية “الخارجة عن القانون الدولي” والمتمثلة في رعايتها الإرهاب و”الأصولية الإسلامية”، وعرقلتها عملية التسوية مع إسرائيل ودعمها لحركات المقاومة اللبنانية والفلسطينية ضدها، وتهديدها للأمن والاستقرار في منطقة الخليج، وسعيها للحصول على أسلحة الدمار الشامل مما يشكل خطراً على مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية والاقتصادية، وبخاصة تدفق النفط إلى الغرب بأسعار ثابتة ومتدنية نسبياً، إضافة إلى انتهاك حقوق الإنسان والحريات العامة في إيران.

ولا شك أن مسائل حقوق الإنسان والحريات العامة لا تكترث لها الولايات المتحدة إلا عندما يتعلق الأمر بأعدائها، وهي تتبع سياسة انتقائية تنسجم مع مصالحها الاستراتيجية في موقفها حيال الحريات وحقوق الإنسان.

أما مسألة دعم “الأصولية الإسلامية” وتصدير الثورة، فإن طهران، وكما قال الرئيس خاتمي نفسه، دخلت مرحلة النضج وتخلت عن هذه المهمة منذ سنوات. لكن وصول الرئيس محمود أحمدي نجاد إلى الرئاسة أعاد إحياء المخاوف لدى بعض الدول العربية وخصوصاً الخليجية من عودة سياسة تصدير الثورة والتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية المجاورة.

وفي ما يخص معارضة طهران لعملية التسوية مع إسرائيل ودعمها لحركات المقاومة ضدها فإن هذه المسألة هي الذريعة الأساس في سياسة الولايات المتحدة العدائية حيال إيران.

وعلى الرغم من ارتباط موقف إيران من هذه المسألة بالموقف الديني من إسرائيل والقضية الفلسطينية، إلا أن طهران في عهد خاتمي أظهرت مرونة لافتة تجاه مسألة تسوية القضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي، انطلاقاً من رؤية راغماتية للواقع ولميزان القوى. حتى أمكن القول أن الموقف الإيراني كان يقترب من الموقف السوري الذي يريد تسوية عادلة نسبياً وشاملة تلبي الحد الأدنى من مطالب العرب وحقوقهم في تحرير أراضيهم المحتلة. لكن الرئيس أحمدي نجاد قد جدّد طرح الخطاب الثوري ضد إسرائيل والداعم للقضية الفلسطينية.

والمسألة الأخرى، التي تثير اعتراض الولايات المتحدة، ومن خلفها إسرائيل، هي التسلح الإيراني بأسلحة غير تقليدية كالغواصات والصواريخ بعيدة المدى، فضلاً عن بناء مفاعلات نووية للاستخدام السلمي، تخشى إسرائيل وواشنطن أن يؤدي امتلاكها إلى حصول إيران على قدرات في التخصيب تتيح لها إنتاج أسلحة نووية تهدد الاحتكار الإسرائيلي لهذه الأسلحة في المنطقة، وتخلق توازناً جديداً للقوى بينها وبين العرب والمسلمين.

أما عن التهديد الإيراني لأمن الخليج واستقراره ولتدفق النفط إلى الغرب، فقد ظهر خلال العقدين الماضيين الذين تليا الحرب الإيرانية – العراقية عام 1988، أن من مصلحة إيران استقرار الخليج وأمنه واستمرار تدفق النفط عبره إلى العالم كله، لأن الخليج هو المعبر الحيوي للصادرات والواردات الإيرانية، ولا سيما الصادرات النفطية التي تمثل 80 في المئة من عائداتها، وخصوصاً من الوجود العسكري في الخليج.

وعلّق بعض الباحثين الغربيين على الاتهامات الأميركية لإيران بالتسلّح فوق التقليدي، قائلين إن هذا التسلح كان يهدف بصورة رئيسة إلى إعادة بناء القدرات العسكرية التي دمرت خلال حرب الثماني سنوات مع العراق، وإلى احتواء وردع التفوق العسكري العراقي على دول الخليج كافة، بما فيها إيران، وذلك قبل الغزو الأميركي للعراق وسقوط نظام الرئيس صدام حسين، إضافة إلى أن الإنفاق الإيراني على التسلح هو أقل بأضعاف من الانفاق السعودي أو العراقي في المجال نفسه. ويرى هؤلاء المحللون أن إيران هي التي تشعر بتهديد إسرائيل، المتفوقة عسكرياً ونووياً، وتهديد القوات الأميركية في الخليج.

وإذا كان المحافظون أو المتشددون في كلا البلدين قد عملوا، ولا يزالون، على عرقلة تطبيع العلاقات بينهما، فإن المعتدلين أو البراغماتيين من الجانبين قد حاولوا بدورهم لإحداث تقارب تدريجي بين الدولتين، بدءاً بعلاقات ثقافية واقتصادية بين الشعبين تساهم في كسر الجليد، وصولاً إلى تنفيذ بعض الترتيبات الهادفة إلى بناء الثقة بين الحكومتين، تمهيداً لاستئناف العلاقات الرسمية بعد التفاوض لحل الخلافات بينهما”.

بوش ومرحلة ما بعد 11 سبتمبر

شكل وصول الرئيس الأميركي جورج بوش إلى سدة الحكم نقطة تحول مهمة في سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران نبعت من رؤية الإدارة الجديدة لدور أميركا في العالم وأهدافها الإستراتيجية، على إثر هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، حيث عدّ بوش إيران ضمن محور الشر مع كل من العراق وكوريا الشمالية.

ومع أن إيران قد أدانت هجمات 11 سبتمبر، وأعلنت عن رفضها للإرهاب بكل صورة وأشكاله، وتعاونها ضمناً مع الولايات المتحدة في هجومها على أفغانستان لإسقاط حكم طالبان، إلا أن ذلك لم يغيّر من السياسة الأميركية تجاهها. وفي حرب الولايات المتحدة في أفغانستان، كانت واشنطن في حاجة إلى مساعدة إيران في المراحل الأولى في حربها في أفغانستان، ولذلك جرى حوار بين الدولتين عبر بريطانيا من خلال زيارة وزير خارجيتها جاك سترو لطهران.
وعلى الرغم من الإدانة الإيرانية للغزو الأميركي لأفغانستان، إلا أن طهران قدمت دعماً ميدانياً للولايات المتحدة في حربها ضد طالبان ومنظمة القاعدة، حيث وافقت في أكتوبر 2001 على المساهمة في إنقاذ أي قوات أميركية تتعرض لمشاكل في المنطقة. كما سمحت للولايات المتحدة باستخدام أحد موانئها لشحن القمح إلى مناطق الحرب في أفغانستان، وشاركت في الدعم العسكري لقوات التحالف الشمالي الأفغاني حتى سيطرت على العاصمة كابول.

لكن هذا التقارب الظرفي سرعان ما تلاشى بسبب استمرار الخلافات الأخرى بين البلدين وتوجّس إيران من الخطط الأميركية لتغيير نظامها الإسلامي خصوصاً بعدما وضع الرئيس جورج بوش الإبن في 29 يناير 2002 كلاً من إيران والعراق وكوريا الشمالية في محور الشر باعتبارها “دولاً إرهابية تهدد السلام العالمي” وتسعى لامتلاك أسلحة دمار شامل. إلا أن الفترة 2002-2004 شهدت غض الطرف من قبل كلتا الدولتين إزاء الأخرى، وفقاً لحسابات سياسية تتعلق بالدور الإيراني في تسهيل قيام نظام عراقي جديد بمشاركة حلفائها من الأحزاب الشيعية والكردية.

ثم ما لبث مؤشر العلاقة أن اتجه نحو خطاب التصعيد مرة أخرى خلال بعد عام 2005، في ظل تعثر مفاوضات الأوروبيين مع طهران حول البرنامج النووي الإيراني، والتي انتهت بإعلان إيران يوم 11 ابريل 2006 نجاحها في تخصيب اليورانيوم، والذي رفضه الغرب وطالبها بوقفه.

وقد زاد من مخاوف إيران من النوايا الأميركية حجم القوات الأميركية والغربية في العراق، على الرغم من وجود رضى ضمني إيراني على الغزو على خلفية التخلّص من نظام صدام حسين، إذ شكّل وجود أكثر من مئة ألف عسكري في دولة مجاورة فضلاً عن وجودهم في أفغانستان وتركيا وأذربيجان ودول الخليج اكتمال الطوق حول إيران. كما اتهمت الولايات المتحدة وبريطانيا إيران بدعم الميليشيات العراقية سواء “جيش المهدي” بقيادة مقتدى الصدر أو بعض المجموعات العراقية السنية لتنفيذ عمليات عسكرية ضد قوات الاحتلال ولتقويض الاستقرار في العراق، بهدف دفع هذه القوات لمغادرة العراق. كما أن الاتهامات الأميركية المتكررة بوجود تدخل إيراني مباشر ومؤثر في الشأن العراقي، حدت بالولايات المتحدة إلى تكليف سفيرها لدى العراق بمفاوضة الجانب الإيراني بشكل غير مباشر في منتصف عام 2005، ثم قبولها التفاوض المباشر والرسمي مع إيران في نهاية مارس 2006 حول الملف العراقي.

كما ساهم وصول محمود أحمدي نجاد المحافظ إلى رئاسة الجمهورية الإيرانية في منتصف العام 2005، بزيادة التوتر في العلاقات الإيرانية – الأميركية وتدهورها، حيث اتهمت الولايات المتحدة أحمدي نجاد بأنه أحد الطلاب الذين شاركوا في احتجاز الرهائن في السفارة الأميركية إبان انتصار الثورة الإيرانية وهو ما نفته إيران بشكل مطلق.

بعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية في حزيران – يونيو 2009 وفوز الرئيس محمود أحمدي نجاد واعتراض منافسه مير حسين موسوي على النتائج واندلاع احتجاجات الحركة الخضراء، أعربت واشنطن عن إدانتها لقمع المحتجين. كما كشفت عن اعتمادها سياسة الحرب الناعمة لتغيير النظام الإيراني، وذلك من خلال دعم المعارضة والاحتجاجات وتأليب الرأي العام ضد النظام من خلال وسائل الإعلام الأميركية باللغة الفارسية، وتمويل بعض وسائل الإعلام المعارضة، فضلاً عن اتهام طهران لأميركا وبريطانيا بدعم حركات إرهابية معارضة على غرار جند الله بزعامة عبد الملك ريغي في محافظة بلوشستان وسيستان الإيرانية.

وفي موازاة ذلك، كثفت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون في مجموعة الدول الكبرى الست (5+1) ضغوطها على إيران بشأن برنامجها النووي واستمرارها في تخصيب اليورانيوم، وتمكنت من فرض عقوبات دولية على إيران، إضافة إلى العقوبات الأميركية والأوروبية.

وفي أعقاب اندلاع الثورتين التونسية والمصرية 2011، قام متظاهرون إيرانيون في 15 فبراير 2011 بمسيرة مؤيدة للثورتين المصرية والتونسية ومناهضة للحكومة في طهران، فقامت ميليشيا “الباسيج” المواتلية للنظام بقمع المحتجين. وصرحت وزير الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون بأن الولايات المتحدة تؤيد مطالب المتظاهرين الإيرانيين، ودعت النظام الإيراني لتبني نظام سياسي منفتح، وهو ما رفضته طهران واعتبرته تدخلاً في شؤونها الداخلية.

ولا شك أن الصراع الأميركي – الإيراني يتمحور حالياً في ملفات عديدة أبرزها البرنامج النووي الإيراني، والعراق، والصراع العربي – الإسرائيلي، وأفغانستان. لكن العراق يشكل أهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة لإيران، بسبب المقوّمات الجيوسياسية والاقتصادية والبشرية المهمة التي يمتلكها، فالموقع الجغرافي والموارد الاقتصادية والبشرية مكّنت العراق سابقاً من أن يصبح إحدى القوى الفاعلة في المنطقة وعنصراً اساسياً في تقرير التوازنات الإقليمية القائمة فيها. من هنا يشهد العراق صراعاً دولياً وإقليمياً للنفوذ فيه وبخاصة بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران.

*كتبت الدراسة في فبراير – شباط 2011 قبل نحو خمس سنوات من الاتفاق النووي بين إيران والدول الست الكبرى.