من ينفذ تقسيم كامبل بانرمان للمنطقة العربية؟

من ينفذ تقسيم كامبل بانرمان للمنطقة العربية؟
Spread the love

د. محمـد عبدالـرحمـن عريـف* — ظهر للعيان في الآونة الأخيرة الكثير من الدراسات واللأبحاث التي تستعرض مخططات ومشاريع تقسيم المنطقة العربية الى دويلات اثنية وعرقية وطائفية ومذهبية، وترسم خرائط الفوضى والدم، تعدل بين الحين والاخر وبناء للظروف الواقعية الناتجة عن تطور الاوضاع في هذا البلد او ذاك، او استنادًا الى متغيرات سياسية ظرفية تعيد تشكيل السلطة في منطقة او اخرى. واذا كانت هذه الدراسات والابحاث تعود في اصولها الى الثلث الاخير من القرن القرن العشرين، فإن كثيرين من المحللين، وربما السياسيين، لم ينتبهوا الى ما سمي بـ “وثيقة كامبل”.
تعود الجذور التاريخية للوثيقة، لِمَا دَعا له رئيس الوزراء البريطاني هنري كامبل بانرمان. من عقد مؤتمر في لندن عام1905 ، استمرت جلساته حتى 1907، بدعوة سرية من حزب المحافظين البريطانيين بهدف إلى إيجاد آلية تحافظ على تفوق ومكاسب الدول الاستعمارية إلى أطول أمد ممكن. وقدم فكرة المشروع لحزب الأحرار البريطاني الحاكم في ذلك الوقت. وضم الدول الاستعمارية في ذاك الوقت وهي: (بريطانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، إسبانيا، إيطاليا). وفي نهاية المؤتمر خرجوا بوثيقة سرية سموه “وثيقة كامبل”.
قدّم المؤتمر توصيات إلى حكومة الأحرار، بعد سقوط حكومة المحافظين عام 1905 برئاسة أرثر بلفور، برئاسة السير هنري كامبل بانرمان، لإقناع رئيس الوزراء الجديد بالعمل لتشكيل جبهة استعمارية لمواجهة التوسع الاستعماري الألماني، ولتحقيق بعض الأهداف التوسعية في آسيا وأفريقيا. وتأسست هذه اللجنة العليا، واجتمعت في لندن عام 1907، وكانت تضم ممثلين عن الدول الاستعمارية الأوروبية وهي: (انجلترا، فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، البرتغال، بلجيكا وهولندا)، إلى جانب كبار علماء التاريخ والاجتماع والاقتصاد والزراعة والجغرافيا والبترول.
المؤتمر استعرض الأخطار التي يمكن ان تنطلق من تلك المستعمرات، فاستبعد قيام مثل تلك الأخطار في كل من الهند والشرق الأقصى وأفريقيا والمحيط الأطلسي والمحيط الهادي، نظرًا لانشغالها بالمشاكل الدينية والعنصرية والطائفية، وبالتالي بُعدها عن العالم المتمدّن. وأن مصدر الخطر الحقيقي على الدول الاستعمارية، إنما يكمن في المناطق العربية من الدولة العثمانية، لا سيما بعد ان أظهرت شعوبها يقظة سياسية ووعيًا قوميًا ضد التدخل الأجنبي والهجرة اليهودية والحكم التركي أيضًا…
وتابع المؤتمر، ليضيف، ان خطورة الشعب العربي تأتي من عوامل عدّة يملكها: وحدة التاريخ واللغة والثقافة والهدف والآمال وتزايد السكان… لقد توصلوا إلى نتيجة مفادها: “إن البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوي للاستعمار! لأنه الجسر الذي يصل الشرق بالغرب والممر الطبيعي إلى القارتين الآسيوية والأفريقية وملتقى طرق العالم، وأيضًا هو مهد الأديان والحضارات”. والإشكالية في هذا الشريان هو أنه كما ذكر في الوثيقة: “ويعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص شعب واحد تتوفر له وحدة التاريخ والدين واللسان”.
ما جاء في توصيات المؤتمِرين في هذا المؤتمر يؤكد على إبقاء شعوب هذه المنطقة مفككة جاهلة متأخرة، بإعتبارها دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ويوجد تصادم حضاري معها وتشكل تهديدًا لتفوقها (وهي بالتحديد الدول العربية بشكل خاص والإسلامية بشكل عام) والواجب تجاه تلك الدول هو حرمانها من الدعم ومن اكتساب العلوم والمعارف التقنية وعدم دعمها في هذا المجال ومحاربة أي اتجاه من هذه الدول لامتلاك العلوم التقنية.
أخطر ما جاء به المؤتمر هو محاربة أي توجه وحدوي فيها. ولتحقيق ذلك دعا المؤتمر إلى (إقامة دولة) في فلسطين بالتعاون مع المنظمة الصهيونية العالمية، تكون بمثابة حاجز بشري قوي وغريب ومعادٍ يفصل الجزء الإفريقي من هذه المنطقة عن القسم الآسيوي، مما يحول دون تحقيق وحدة الشعوب العربية، ليس فقط فصلاً ماديًا وجغرافياً عبر “الكيان الإسرائيلي”، وإنما اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا، مما أبقى العرب في حالة من الضعف مع استمرار تجزئة الوطن العربي وإفشال جميع التوجهات الوحدوية إما بإسقاطها أو تفريغها من محتواها.
واذا تتبعنا حراك السياسة البريطانية ومجمل السياسات الغربية فيما يتعلق بالوطن العربي وبعض الدول الإسلامية منذ ذلك التاريخ، نستطيع ملاحظة أن “وثيقة كامبل” أسست لوعد بلفور عام 1917 بمنح وطن قومي لليهود في فلسطين، وأقامت (دولة إسرائيل) في قلب الوطن العربي كغدة سرطانية توسعية لمنع وحدته وتقدمه.
كما أسست “وثيقة كامبل” لاتفاقية سايكس ـ بيكو والاتفاق على تقسيم الوطن العربي إلى مناطق نفوذ بين بريطانيا وفرنسا، وفرض الانتداب والاحتلال عليها، كما منحت إيطاليا حق استعمار ليبيا، وهي التي ساهمت بفعالية في مقاومة نجاح أي مشروع نهضوي عربي أو إسلامي. ويمكن القول أن هذا المؤتمر والوثيقة الصادرة عنه والتوصيات التي تحولت الى مشاريع فعلية تنفذ على مسرح المنطقة العربية والاسلامية، قد شكلت النواة الأساسية والتي انبثق عنها كل من اتفاقية سايكس بيكو، ومن ثم وعد بلفور، ولم تغب عن مؤتمر ومعاهدة فرساي، ومؤتمر سان ريمو، ومعاهدة سيفر، ومعاهدة لوزان.
وأيضاً، كانت خلفية التوصيات النابعة من “وثيقة كامبل” صدور قرار التقسيم 181 بتاريخ 29/11/1947، وإعلان قيام “دولة إسرائيل” بتاريخ 15/5/1948.
ومع أهمية الدراسات والابحاث (وخطورتها)، لم تكن فكرة السيطرة على (العالم، أو بعض مناطقه الحيوية على الأقل) جديدة على الدول الاستعمارية التي تطمع إلى استيلاب الشعوب مقدراتها وثرواتها، واستعبادها والاستيلاء على بلدانها ايضًا. ولم تشذ بريطانيا، الامبراطورية العظمى التي لا تغيب عنها الشمس، عن هذه القاعدة، بل كانت تضع الاستراتيجيات والخطط وتسوّق لها من اجل استمرار سيطرتها على المستعمرات وزيادة مساحاتها، وكانت تبحث دائمًا عن اراضٍ جديدة بعد نفاذ مخزون الاراضي التي تستعمرها، وعن شعوب جديدة تضعها تحت سيطرتها.
ويكاد يظهر جليًا اليوم ان السياسة الأميركية تجاه العرب منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية تشكلت على المبادئ الأساسية لهذه الوثيقة، خصوصًا فكرة صراع الحضارات والصراع الديني، مع الفارق بإحلال السيطرة الأميركية محل السيطرة الأوروبية والاستعمار القديم بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. ومحاولة اعادة ترسيم حدود دول المنطقة على قواعد جديدة تتبنى “وثيقة كامبل” بنسختها الجديدة والمنقحة التي تغير في اسماء المستعمرين مع تغير موازين ونقاط ارتكاز القوى العالمية، وتُبقي على قواعد التقسيم والتفتيت والسيطرة.
ما سمي بـ”وثيقة كامبل”، تؤسس فعليًا الى صورة المشهد الاستعماري في نظرته الى منطقة الشرق الاوسط والعالم العربي والاسلامي. وإن تغيرت الوجوه والدول والمواقع فإن الاساس يبقى هو ذاته: البحث عن سبل ايجاد (عالم) يسهل السيطرة عليه، ويفقد كل مقومات الصمود والبقاء، وتعمّه الحروب والنزاعات.
لَكِنْ يَبقىّ السُؤال الأهَم بَعدَ كُلَ مَا سَبَقَ اِستعرَاضهِ… كَامبل بانرمَان قَسمَ العَرب إلىّ شَرق وغَرب عَلىّ الخَريطَة.. فَمَنْ يُنَفِذ اليَوُم عَلَىّ الأرضِ؟.

*د. محمـد عبدالـرحمـن عريـف عضو الاتحاد الدولي للمؤرخين. كاتب وباحــث في تاريخ العرب الحديث والمعاصر وتاريخ العلاقات الدولية والسياسة الخارجية.